د. حسن بن فهد الهويمل
الناس أطياف, بل أكاد أجزم بأن كل فرد طيف بنفسه, له أهواؤه, ورغباته, ومفاهيمه.
نعم هناك نسق ثقافي, يحكم الجماعة, ولكن الجماعة التي يحكمها النسق ليست كالعملة الورقية متطابقة في: اللون, والحجم.
الناس تحت أي انتماء: طائفي, أو عرقي, أو فئوي تختلف عقولهم, وعواطفهم, وأهواؤهم, ومفاهيمهم. فهم مختلفون داخل منظومتهم, ولكن المصلحة العارضة, قد تجعلهم يأتلفون على ما هم عليه.
العاقل المجرِّب يدير الاختلاف, ولا يفكر بحسمه, ويعطي تنازلات لا تمس الثوابت, ليُبلِّغ رسالته. هناك فرق بين الضعة, والتواضع. والاتقاء, والمداهنة. والمسألة كلها تدور في إطار حسن إدارة الاختلاف, لا في حَسْمه.
مشكلة الأمة ليست في سك المصطلحات المتلاحقة, ولكنها في اختلاف المفاهيم, والقراءات المتباينة. أخطر المصطلحات ما له أثر في حياة الأمة كـ:
(الجهاد) و(الولاء, والبراء) و(التكفير) و(الركون) و(المحبة: الجبلِّية, والعقدية) و(الحاكمية).
تلك المصطلحات قائمة, ومهمة, وإشكالياتها ليست في ذاتها, وإنما هي في اختلاف المفاهيم حولها بين متدين متطرف, وعلماني متعصب, وسني معتدل مستنير, يضع للواقع, والإمكانيات مكانتها, وجاهل لا يدري عن المقاصد شيئا.
هذا التشرذم, والصراع الدامي بين المكونات السكانية في المجتمع العربي, ليس مرده إلى المصطلحات بمفاهيمها السليمة.
المصطلحات الإسلامية بمفاهيمها الصحيحة لا تصيب الأمة بهذا الوضع المذل.
لقد فهمها بعض السلف الصالح على مراد المشرع, وحققوا من خلال فهمهم السليم النصر, والتمكين, ونصروا بالرعب.
وفهمتها الطوائف, والمذاهب وفق أهوائهم, ورغباتهم, فحرفوا الكلم من بعد مواضعه, وخاضوا بها على ضوء رؤيتهم, فأوغلوا في الفتن, وأراقوا الدماء, وأهلكوا الحرث, والنسل. وإذا قيل لهم: (اتقوا الله). كفَّروا خصومهم, ثم استباحوا دماءهم, وأموالهم.
ومن وراء هذه المفاهيم الضالة أعداء متربصون, يجندون من عملائهم علماء يتلون القرآن, ثم لا يجاوز تراقيهم, ويقرؤون السنة لتحريفها, وإنكارها, يحرضون على (الجهاد) بمفهومهم الضال, المضل.
من هنا دُمِّرت الأمةُ, وشُتِّت شملُها, وأصبحت قابلة للتبعية. لأنها تجرعت فظائع جرائرها, ولم تعِ خطأ مفاهيمها.
ولما تزل بعض طوائفها مصرة على صحة فهمها لهذه المصطلحات المصيرية.
لقد حرر(علم اللغة) الحديث إشكالية (النص) بين: المعنى: الوضعي, والسياقي, والمجازي, وبين المفهوم بوصفه حَقًّا للمتلقي.
واستطاع (النقد الحديث) الاستعانة بهذا المنجز اللغوي, ومن ثم وضع لـ(المفهوم) كل الأهمية, وبخاصة حين يكون (النصُّ) حمّال أوجه.
وحين يكون المتلقي متلبساً برؤية, لا تسمح له بالقراءة البريئة, يشطح به هواه. وكم من مرسل حُمِّل نصه ما لا يحتمل, وقُوِّل ما لم يقل.
ومن ثم تعقب علماء التفسير, واللغة, وشرَّاح الدواوين مشكل المحكم, والمتشابه.
(نظرية: التلقي, والمعرفة, والاستقبال) تخول (المرسل إليه) قراءة الرسالة على ضوء منطوق الرسالة, أو على ضوء مفاهيمه, وخلفيته الثقافية.
وإذا كان الاختلاف على أشده بين مفسري القرآن, وشراح الحديث, فإن ما سواهم أقل شأناً, وخطراً.
أطياف الأمة تموج بها الأهواء, والمفاهيم الخاطئة. والمتسرعون المتعالمون جندوا إمكانياتهم لإلغاء المصطلحات الثابتة بالنص المحكم, ولم يحاولوا تصحيح المفاهيم.
(الكفر, والتكفير) مصطلح إسلامي ثابت بالنص: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ}. والضالون, المضلون يتصورون أن مجرد (الكفر) مخول لاحتلال الدماء, والأموال, والأعراض. وأن من حق المسلم أن يمارس القتل, والتشريد لكل من حكم بكفره, دون الرجوع إلى (ولي الأمر) وهذا الاعتقاد منتهى الضلال, والفساد, والفوضى.
أخطاء فادحة أرهقت الأمة, وحملت المصطلح ما لا يحتمل.
(الأمة الكافرة) لا يحدد الموقف منها إلا (الحاكم), وما لم تقاتلنا على الدين, لا على المصالح, وتخرجنا من ديارنا, فإن من حقها, وحق أفرادها علينا (البر, والقسط), والحب الجبلي, والتعامل معها, ومعه, وإجراء العقود, والمواثيق. وقل مثل ذلك عن مصطلحات (الجهاد) و(الولاء, والبراء) و(الركون) و(المحبة).
الأمة ينقصها الوعي, والفهم السليم, وتفعيل دور العلماء: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.
لقد شكك الأعداء بـ(العلماء), و(القادة), وحرضوا على التمرد, والاستخفاف بالسمع, والطاعة. والالتزام بمقتضيات البيعة الشرعية, ودعوا إلى الفوضى باسم (الحرية) غير المنضبطة.
بهذه الدعوات الضالة المضلة ضاع الأمن, والاستقرار.