م. بدر بن ناصر الحمدان
في نوفمبر 2018م كنت عائداً من رحلة عمل من تونس إلى الرياض مروراً بمدينة جدة، وحينما أخذت مقعدي في الطائرة جاءت المضيفة وأجلست بجانبي امرأة كبيرة في السن، قد بلغت من الكبر عتياً، ونظرت إلى في إشارة إلى أن أعتني بها كجار مقعد، كانوا ينادونها بالسيدة (جليلة)، وكانت متجهة لأداء مناسك العمرة مع حملة محلية، ويظهر عليها المرض والإعياء، ولم يكن يرافقها أحد.
لا أخفي أنني في بداية الأمر لم أكن سعيداً أبداً بمجاورتها، فالرحلة طويلة، ولم أكن مستعداً لتحمل مراعاة امرأة مسنة طوال هذه المدة لاسيما أنني كنت مرهقاً وقادم من مدينة بعيدة براً بعد أن غادرتها منذ الصباح الباكر، قبل الإقلاع كانت السيدة (جليلة) تتحدث مع ابنها عبر الهاتف وكان من الواضح أنه يطمئن عليها ويبدو أنه طلب منها أن يحادث من بجوارها، فطلبت هي مني أن أتحدث معه وخلال المكالمة اختصر كل شيء و(أوصاني بأمه خيراً).
لم يعد حينها لدي أيّ خيار سوى أن أتنازل عن طقوسي المعتادة في رحلات الطيران التي عادة ما انتهزها في الاسترخاء الذهني وممارسة الكتابة، كان لابد أن أقبل وبصفة إنسانية بتحمل مسؤوليتي تجاه هذه المرأة التي تنوي بيت الله الحرام، بدأت الرحلة بمحاولة تفسيري لطلبها الأول نظراً لاختلاف لهجتينا الخليجية والتونسية، وفهمت لاحقاً أنها بحاجة لتنظيم تناولها للدواء خلال الساعات المقبلة، توالت أوجه مراعاتي لها من خلال مساعدتها في القيام والجلوس والشرب والأكل وشرح تعليمات الملاحين طوال الرحلة.
حين علمت أنني من السعودية لم تتوقف عن طرح الأسئلة والاستفسارات عن مناسك العمرة ومكة المكرمة والمدينة المنورة وآداب الزيارة وغيرها، وكنت أجيبها وبشكل مفصل عن كل ما يهمها معرفته، كانت تصف لي شعورها وهي ذاهبة إلى الأراضي المقدسة وكيف كانت تحلم بهذا الشرف العظيم منذ سنوات طويلة، تتحدث عن ذلك وهي تنظر إلى النافذة في حوار مع مكان بعيد عنها ولكنه يسكن كل وجدانها، كان مشهداً عاطفياً لا يوصف.. أيّ وازع ذلك الذي يحرك كل هذه المشاعر الجياشة بداخلها.
بعد أكثر من خمس ساعات حطت الطائرة على المدرج، وانتهت رحلة الطيران، لكن رحلتي مع السيدة (جليلة) لم تنتهي، قبل وداعي لها في صالة المطار، أمسكت بيدي وأخذت تدعو لي بدعوات لا تقدر بثمن، كان لها وقع خاص، أثار مكامني، شعرت أنها منحة ربانية، ساقها الله لي من غير لا أحتسب، غادرت هي إلى وجهتها، وغادرت أنا إلى وجهتي، بعد أن جمعنا القدر فوق الأرض وعليها.
في رحلة المواصلة إلى الرياض، لم تفارق دعواتها سمعي، ولا ألبث إلا أن أسترجع ما حدث بيني وبينها، «ربي يعيشك» أكثر كلمة قالتها لي، بقي صداها يتردد في أذني وقتاً طويلاً، وأجد أملاً لثمار دعواتها تتجسد في حياتي وأيامي المقبلة، أيّ لقاءات تلك التي تغرس بداخلنا قُيماً راقية، وبذرة لعلاقة إنسانية ذات وجود، وذاكرة لا تُنسى.
جارتي السيدة (جليلة)، التقينا صدفة وافترقنا على دعاء سماوي، اليوم لا أدري أين هي، ولا تدري أين أنا، ولكن ربما لسان حالها يقول «يوماً ما سنلتقي صُدفة أنتَ تَعرفني وأنا لا أتذكرك».
غيروا أماكن مقاعدكم، لربما التقيتم بها، لتدعو لكم.