د.عبدالله بن موسى الطاير
مخاض الشرق الأوسط الجديد طال، لكن الولادة لا تبدو متعسِّرة، لذا لم يعد السؤال عن موعدها وإنما عن تفاصيل المولود. فهل سيشبه الشرق الأوسط الذي ولد على يد سايكس بيكو، أم أن ملامح القادم الجديد ستكون مختلفة؟
لما تحدثت كوندوليزا رايس عن الشرق الأوسط الجديد، في تل أبيب عام 2006، ثم نشرت مجلة القوات المسلحة الأمريكية، مقالاً بعنوان «حدود الدم» للضابط المتقاعد رالف بيترز، ظهر المخطط وكأنه حلم يراود المحافظين الجدد في واشنطن، أكثر منه قدر تنتظره المنطقة. ومع مرور الوقت تطورت ملامح هذا الكيان على أعين الأزمات المتلاحقة، وأسماع الأحداث المتسارعة.
ذكر جورج فريمان في كتابه «المئة سنة القادمة» (2009م) أن الصراع الدموي في الشرق الأوسط سيبلغ ذروته في 2020م، وهي سنة فاصلة في تاريخ منطقتنا، ولكن ربما ليس بالدقة التي تنبأ بها رالف بيترز.
لننظر إلى المشهد الحالي بتأمل؛ ولنبدأ من العراق الذي كان موحداً عام 2001م (السنة التي ولد فيها القرن الأمريكي الجديد)، ولم يكن يخطر ببال أحد أنه سيكون بعد 6 سنوات منذئذٍ المأوى الأساس للقاعدة ثم داعش، ويرزح تحت سيطرة فيلق بدر وملحقاته، كما لم يتوقّع أحد أنه بحلول الربع الأخير من 2019م سينتفض أفراد المكون الواحد على رموز الفساد التي دُجنت على حسابه منذ عام 2003م، وأن صور ولي الفقيه ستضرب بالأحذية في المناطق الشيعية العربية.
الحال لا يختلف كثيراً في سوريا، ففي عام 2001م كانت موحّدة قوية، وهي اليوم ناقصة السيادة من كل الجهات، فأرضها أصبحت مشاعاً بين روسيا وأمريكا وإيران وتركيا، وتسرح فيها الطائرات والصواريخ الإسرائيلية وتمرح كيف شاءت. وبدرجة أقل حدة وأكثر عمقاً يعاني لبنان من غياب الحكومة المركزية لصالح التيارات والطوائف، التي تكرَّست منذ الميثاق الوطني عام 1943م، ولكن الطائفية توحشت منذ أصبح أحد أطراف المعادلة مسلحاً، ويعتمد على دعم إيراني غير منقطع لحزب الله، الذي أضحى الحاكم الفعلي بما يملك من سلاح وتمويل وشعبية.
إلى جنوب الجزيرة العربية تغير الحال كثيراً عمَّا كان عليه عام 2001م، فاليمن مختطف من قبل جماعة انقلابية ممولة من إيران، والداخل اليمني شبه مستسلم لهذا الواقع، وتشرذم اليمنيون في دولة شرعية لها حق الحكم ولا تفعل، وحراك جنوبي، وحوثي انقلابي. وانشغل التحالف برأب الصدع اليمني بين الشرعية والجنوب بدلاً من توجيه الجهود لإخراج الحوثي من صنعاء، لتعود عاصمة لليمن الواحد.
أخذاً في الاعتبار هذه المعطيات، يمكن أن تشرق الشمس ذات صباح على شرق أوسط بعدد أكبر من الدول، بدعوى تصحيح أخطاء سايكس بيكو. إستراتيجية القرن الأمريكي الجديد تقوم على دويلات عرقية أو طائفية متماسكة ومنسجمة داخلياً مما يحقق الاستقرار والنماء والسلم الداخلي لمواطنيها، وفي ذات الوقت تتزايد فرص الاحتكاك بين تلك الدول الجديدة فتتعاظم فاتورة التسلح، ويزيد الاعتماد على الحماية الأمريكية. ليس هذا فحسب وإنما ستنمو فواتير السلاح بعدد الدول، وتزداد فواتير السلع والخدمات اللازمة للتنمية التي تنتجها وتقدمها أمريكا والدول الغربية. دول شرق أوسطية أكثر، مستقرة ولكنها ضعيفة، لا تشكِّل تهديداً للمصالح الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة. القوى العظمى وبخاصة أمريكا لا تريد كيانات قوية، ولا دولاً كبيرة، وإنما دولاً وظيفية صغيرة مستقرة لا تهدد سيادة جيرانها عند الاختلاف، ولا مصالح أمريكا وحلفائها في كل الأحوال.
دعونا نستعد لدولة شيعية عربية في العراق، مكافأة لهم فيما لو نجحوا في الانعتاق من سيطرة ولاية الفقيه، وإلى جوارها دولة عربية سنية في وسط العراق الغربي قد تستوعب العرب السنة في سوريا. وستولد دولة كردستان العظمى على حساب العراق وسوريا وتركيا وإيران، إضافة إلى وجود لبنان أكبر مساحة مما هو عليه، من خلال تمطيطه شمالا على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط.
لن تأتي أمريكا بجنودها لفرض المشهد الجديد، وإنما ستفرضه الحاجة إلى الأمن المفقود، والاستقرار الضائع في هذه المنطقة من العالم، وستقدم أمريكا حلولها السياسية منطلقة من هذا المخطط الذي لن يكون شراً على الجميع، ولا خيراً لكل المشمولين به. إنه لا يعيد الاستقرار للمنطقة فحسب وإنما يصنع أسواقاً جديدة.