د.عبد الرحمن الحبيب
منذ عامها الأول في السلطة أعلنت إدارة ترامب عزمها على الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، لكن لا يُسمح لأي بلد بطلب الانسحاب إلا بعد ثلاث سنوات من دخول الاتفاقية حيز التنفيذ، وهو ما حصل الأسبوع الماضي، فقدمت واشنطن الطلب الرسمي للانسحاب، الذي لن يكون سارياً إلا بعد انقضاء سنة واحدة من تاريخ استلام الطلب، مما يعني أن الانسحاب سيتم رسمياً بعد يوم واحد من الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2020 ، لتكون أمريكا الدولة الوحيدة التي خرجت من الاتفاقية من بين 194 دولة.. مما يثير العديد من الأسئلة: ما هي أسباب الانسحاب وما تأثيراته على التغيرات المناخية، وهل أصلاً كل الدول في الاتفاقية ملتزمة بها، وما هي الحلول لمواجهة الخروقات أو الانسحاب من الاتفاقية؟
بداية، الاتفاق يهدف إلى احتواء الاحترار العالمي لأقل من درجتين مئويتين وسيسعى لحده في 1.5 درجة عبر خفض الانبعاثات الغازية المسببة للاحتباس الحراري، لاحتواء تداعيات الاحترار من جفاف وفيضانات وعواصف وحرائق وغيرها من سلبيات على البيئة والصحة والاقتصاد. بالنسبة للدولة العربية فهي معرضة أكثر من غيرها للتصحر وشح المياه رغم أن نسبة انبعاثات الغازات من كافة الدول العربية في حدود 5 % من الكمية العالمية مقارنة بنسبة: 29 % للصين، 14 % لأمريكا، 10 % لدول الاتحاد الأوربي، 7 % للهند (منشورات الاتحاد الأوربي، 2018).
أما أهم سبب للانسحاب الأمريكي من الاتفاقية هو أن الإدارة الأمريكية ترى أنها تعطي تنافسية للصين ودول أخرى على حساب الشركات الأمريكية وتزيد الروتين المقيد لقطاع الصناعة الأمريكي؛ إذ يعتبر ترامب أن الاتفاقية «تؤذي الاقتصاد الأمريكي» وتترك دولاً مثل الصين «تزيد من انبعاثاتها بلا رادع». كما أن لجماعات الضغط الصناعية وشركات الطاقة دور مهم في هذا الانسحاب.
ورغم أن الانسحاب لا يعني عدم التزام أمريكا بمعايير البيئة الخاصة بها، إلا أن خروجها يلوح بآفاق سيئة للبيئة لأن الانبعاثات العالمية بدأت بالفعل تتصاعد، بعد عدة سنوات من النجاح في تثبيت كمية ثاني أكسيد الكربون وغازات الاحتباس الأخرى التي يتم إطلاقها في الجو. كما أن تنازل أمريكا عن مسؤولية الحد من الانبعاثات، سيجعل من الصعب إقناع الصين والهند وغيرهما بالالتزام بالاتفاقية، فضلاً عن أن أمريكا هي حجر الأساس بالاتفاقية وقد يعد انسحابها بحكم المنتهية من الناحية العملية.
عملياً، ليست كل الدول الموقِّعة على الاتفاقية تلتزم بها، بل تشير التقارير إلى أن أغلب البلدان قصرت في التزاماتها وبعضها لديها خروقات واضحة، وقد لاحظنا ما حصل في حرائق الأمازون وتوسع الزراعة والتعدين وإزالة الغابات هناك، وكيف رفض الرئيس البرازيلي المقترحات والعروض الدولية. لذا، فإن العضوية في اتفاق باريس تعد من الناحية العملية أقل أهمية من الخطوات التنفيذية المتخذة لخفض انبعاثات غازات الاحتباس.
فهل يمكن معاقبة الذين لا يلتزمون بالاتفاقية أو الخارجين منها؟ حتى الآن لا توجد آلية دولية لفرض الاتفاقية على الموقعين عليها، فهي أقرب ما تكون إلى التزامات طوعية. إلا أنه من المتوقّع أن تتجه الدول لاحقاً إلى تشديد القوانين البيئية وفرض عقوبات. فمن المحتمل أن يقر الاتحاد الأوروبي خططه الناشئة عن نوع من ضريبة الحدود الكربونية، والتي من شأنها فرض التعريفة الجمركية على جميع السلع القادمة من بلدان لا تعالج تغير المناخ، مما سيضع الشركات الأمريكية في وضع ضعيف تنافسياً. ووجود الدولة خارج اتفاقية باريس قد ينتهي بها الأمر إلى صعوبة التوصل إلى اتفاق تجاري جديد مع الاتحاد الأوروبي؛ ففرنسا، مثلاً، تعارض عقد صفقة تجارية مع أي بلد خارج الاتفاقية (كينث جونسون). وثمة جهات مستوردة تشترط أن تكون المنتجات الزراعية صديقة للبيئة، والتي امتدت إلى منتجات الأمازون، فكبار مستوردي اللحوم يطالبون المنتجين بالبرازيل بالالتزام بمعايير حماية البيئة.
وربما نشهد ضغوطاً من الشارع في العالم مع خروج المتظاهرين المدافعين عن البيئة، لتشكِّل ضغطاً سياسياً، كما حصل في سبتمبر الماضي في حركة «يوم الجمعة من أجل المستقبل» أكبر تظاهرة مناخية بالعالم اضطرت بعض الحكومات الأوربية للاستجابة لبعض مطالبها. كذلك، فإن ضغط الرأي العام الأمريكي له دور، إذ تشير استطلاعات الرأي الأمريكي إلى أن 59 % من المواطنين الأمريكيين يرفضون خروج بلادهم من الاتفاقية (نصير العمري).
هذا الانسحاب الأمريكي يدخل في لب الصراع السياسي الداخلي بين الجمهوريين والديمقراطيين، فمع بدء موسم الحملات الانتخابية نفَّذ ترامب أحد أهم وعوده الانتخابية بالانسحاب من اتفاقية باريس، فيما يرى الديمقراطيون إن الانسحاب سيفقد واشنطن الكثير من التأثير على الساحة العالمية، بينما نصف الجمهوريين تقريباً يقولون إنهم ليسوا مهتمين على الإطلاق، وأن نسبة ضئيلة فقط تأخذ هذه القضية على محمل الجد حسب كينث جونسون (فورين بولسي).
أخيراً، ثمة احتمال كبير بعودة أمريكا للاتفاقية، ربما بعد انتخابات 2020 .. وقد صرح ترامب أنه من الممكن أن يعود إلى الاتفاقية إذا التزمت الصين وغيرها بشروط التنافسية، والانسحاب الحالي إداري وهناك وقت للتراجع، لكن سياسة ترامب بشكل عام هي عدم إلزام الولايات المتحدة بأي اتفاقية تحد من التنافسية الأمريكية.