عبد الرحمن المعمر
«خيركم من طال عمره وحسن عمله»، تذكرت هذه العبارة حين سمعت بيان الديوان الملكي ينعى فقيد البلاد الأمير بندر بن عبدالعزيز آل سعود، فقد امتدت به الحياة وطالت، كانت حياة حافلة بالأعمال الخيرية والمبرات الظاهرة والخفية. استدارت بي الأيام والسنين إلى عقود مضت وأيام خلت يوم لقيت الأمير في أول حياتي، ومنذ عرفته وهو يتصف بالسماحة والتدين المعتدل، كان (رحمه الله) رجلاً صالحاً محباً للصالحين ينطبق عليه قول الشاعر:
(تحب الصالحين وأنت منهم
وترجو أن تنال بهم شفاعة)
كان حينذاك يسكن في بيت بجوار قصر والده الملك عبدالعزيز في حي الفوطة، كنت أزوره في ذلك البيت المبني بالطين قبل أن تأتي البيوت الإسمنتية والتي كان يطلق عليها (المسلحة)، ويستقبل زواره بحفاوة وترحيب وطلاقة وجه وسماحة محيا.
وتدرجت الحياة وتقدمت وتحول سكن الأمير من الفوطة إلى ضاحية المصانع في جنوب الرياض على ضفاف وادي حنيفة، كانت تلك الزيارات قبل أن تدركني حرفة الأدب والصحافة. ثم بدأت أكتب في الصحف والمجلات ومنها مجلة (راية الإسلام) التي كان يصدرها سماحة الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم آل الشيخ شقيق سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم وكان الأمير -رحم الله الجميع- مشتركاً وداعماً للمجلة مادياً باشتراك تشجيعي ومعنوي كذلك. وكنت أنا ومعالي الأخ الأستاذ عبدالرحمن بن محمد السدحان الذي صار فيما بعد أميناً عاماً لمجلس الوزراء نكتب في المجلة، ونسكن في حي الملز ولم يكن لدينا حينئذ سيارات، فنستأجر سيارة أجرة (تاكسي كما كانت تسمى وقتذاك) إلى مقر المجلة في دخنة، ونسلِّم مقالاتنا، ونلتقي ببعض الأساتذة وعلماء الشريعة الذين يمرُّون ويسلمون على صاحبها الشيخ عبداللطيف، ومن جملة من تعرفنا عليهم من كتاب المجلة الشيخ عبدالله بن سليمان بن منيع عضو هيئة كبار العلماء حاليا والشيخ زيد بن عبدالعزيز بن فياض والشيخ عطية محمد سالم غفر الله لهما، وذلك قبل أن يذهب الشيخ عطية إلى المدينة المنورة ويجتهد في طلب العلم والتدريس، وغيرهم من المشايخ.
كان الأمير بندر أعلى الله منزلته يقرأ مقالات المجلة، ولفت نظره مقال لي فسُرَّ به، ولما زرته في أحدى المرات شجعني وأبدى دعمه وأبوته الحانية، فشكرت سموَّه وطلبت منه أن يلتفت إلى مقالات بعض الشباب كذلك.
وبمناسبة التطرق إلى مجلة (راية الإسلام) فقد طلبت من الأخ محمد ابن الشيخ عبداللطيف آل الشيخ الاستمرار في إصدارها بعد أن توقفت، فقال لي إن امتيازها لا يزال قائماً. وها أنا أرجوه الآن في هذا المقال أن يعيد إصدار المجلة التي تعرض الإسلام المعتدل الوسطي.
وعودة إلى الأمير -رحمه الله- فقد كان من المحبين للاصطياف في الداخل والمشجعين له بحضوره إلى الطائف في بداية الصيف كل سنة، وغالباً ما يقضي الصيفية كاملة أيام الملك سعود والملك فيصل.
وكان عمي عبدالعزيز بن معمر -رحم الله الجميع- أمير الطائف في تلك الفترة يذهب لزيارته والترحيب به فبينهما معرفة قديمة وصداقة حميمة والأمير كما قلت ينزل الناس منازلهم، وكنت أرافق العم في بعض الزيارات، وكان يوجه الدعوة ويؤدب للأمير مأدبة، والأمير يتلطف ويستجيب، وكانت لقاءتهما فرصة لي للقاء الأمير والاستئناس بحديثه وتوجيهاته.
ثم بنى الأمير بندر منزلاً له في القمرية يوم كانت ضاحية قبل أن يمتد إليها العمران وتصبح ضمن أحياء الطائف المأنوس، فصرت أزوره في ذلك المنزل الذي هو الآن مقر الجوازات في الطائف. وذات صائفة جميلة لقيت الأستاذ أحمد عبدالغفور عطار مؤسس جريدة عكاظ والكاتب والمؤرخ الكبير وصاحب كتاب صقر الجزيرة في تاريخ الملك عبدالعزيز، وذكرت له أن الأمير بندر في الطائف وأنني سوف أزوره اليوم فقال إنه يعرف الأمير منذ أيام والده الملك عبدالعزيز -رحمه الله- واستحسن أن نذهب سوياً لزيارته والترحيب به. وفعلاً ذهبنا للسلام على الأمير الذي رحب بنا ببشاشته وأريحيته المعهودة، ثم فتح الحديث مع الأستاذ العطار عن كتاب صقر الجزيرة الذي صدرت طبعته الثانية تلك الأيام في ستة مجلدات.
وقال الأمير متسائلاً: إنني سمعت أن هناك أناساً ضد الكتاب، وأنا لا أعرف سبب ذلك وأحب أن أسمع منك الرد.. فاعتدل الأستاذ أحمد في جلسته وقال: إنه أصدر الطبعة الأولى في عهد الملك عبدالعزيز وكانت في ثلاثة أجزاء، ولما ولي الملك فيصل وبويع بالملك استحسنت إعادة طبعه والتوسع فيه وإدخال فصول عليه وقد طبعته في بيروت، ولما وزع في المملكة وانتشر قامت ضجة بسبب أن بعض القرَّاء رأوا فيه تجاوزات، فكثرت الكتابات والرفع للجهات ضد الكتاب والوشايات ضد كاتبه، فرفعت وزارات الإعلام والداخلية ما وصل إليهما لديوان رئاسة مجلس الوزراء، ومن حسن الحظ أو حسن الطالع أو التوفيق أن الذي تولى دراسة الموضوع رجل أديب ومطلع ومثقف كبير هو الأستاذ عبدالعزيز الرفاعي، وكان أحد كبار موظفي ديوان الرئاسة، وقد أحيلت إليه المعاملة لدراستها بحكم تخصصه اللغوي والأدبي، وبعد دراستها وجد أن كل الدفوعات التي في المعاملة ضد المؤلف وليس فيها رأي معه، فكتب عليها تقريراً في صفحة واحدة، وملخص التقرير يقترح فيه طلب إفادة المؤلف فيما ذُكر عن الكتاب. وكان الشيخ عبدالله كامل يقوم بعمل رئيس الديوان (الشيخ صالح العباد) الذي كان في إجازة فأرسلت له المعاملة، وبعد أن عرضها على الملك فيصل اطلع على الملخص وتعجب كيف أن هذه الآراء كلها آراء فردية ضد المؤلف فشرح عليها يطلب رأي المؤلف. وهنا رجعت المعاملة مرة ثانية إلى الأستاذ الرفاعي الذي طلب حضور الأستاذ العطار، والذي كان موجوداً في منزله الصيفي بجوار مسجد الشيخ محمد سرور الصبان في حي اليمانية القديم على حافة وادي وج، فحضر إلى الديوان بقصر شبرا، يوم خميس، وكانت الدولة تعمل في تلك السنين طيلة أيام الأسبوع ما عدا يوم الجمعة، واجتمع بالأستاذ عبدالعزيز الذي أطلعه على رغبة الملك في إفادته. وهنا تبدأ القصة، والتوضيح الذي وضحه الأستاذ أحمد عطار للأمير بندر، فقد كتب إفادته -التي من إعجابي بها وترديدي لها أحفظها نصاً بعد كل تلك السنوات- حيث قال فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم، حضرة صاحب الجلالة الملك الكبير في خلقه وعقله فيصل بن عبدالعزيز مد الله في عمره، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وبعد: اطلعت على المعاملة الدائرة والاعتراضات والشكاوى ضد كتابي الذي ألفته وعنوانه (صقر الجزيرة). إن مَن رفعوا تلك الوشايات وكتبوا تلك الاعتراضات لا شك أنهم مواطنون مخلصون ولكنه إخلاص الجاهل وولاء الغبي، والمثل العبي يقول «العدو العاقل خير من الصديق الجاهل» والشاعر العربي يقول أيضاً:
(ومن العداوة ما ينالك نفعه
ومن الصداقة ما يضر ويؤلم)
إنني قد كتبت هذا الكتاب وكتبت فيه عن خصوم الملك عبدالعزيز، واعتراض المعترضين على فصلين أنا ملم بهما، فصل كتبته عن الحسين بن علي ملك الحجاز، وفصل عن عبدالعزيز ابن رشيد أمير حائل، وكلاهما خصمان كبيران للملك عبدالعزيز. لقد أعطيت الحسين وابن رشيد حقهما وأنزلتهما منزلتهما ولم أقلل من شأنهما، فإن من عظمة الملك عبدالعزيز أن يكون خصومه كباراً وعظماء، فإنه يكبر إذا كبر خصومه. أأقول واجه الملك عبدالعزيز أناس ليس لهم قيمة؟! فهذه ليست عبقرية، العبقرية أن ينتصر على ندٍ له وابن رشيد والحسين أنداد للملك عبدالعزيز، ولهم ثقل في الميزان و لم أحاول أن أقلل من شأنهما».
وقد أعجب الملك فيصل بالجواب لأن الذين كتبوا الشكايات نظروا إليها من زاوية ضيقة، وشرح على المعاملة بعد أن قرأ إفادة العطار: «يفسح الكتاب ولا يسمح لأحد بالاعتراض عليه، وتبلغ الإعلام بفسحه، والدولة لم تطلب من أحد رأي في هذا الأمر». وأضاف العطار مخاطباً الأمير بندر: «هؤلاء مواطنون ليسوا مثقفين ولا قرَّاء ولا مؤرخين إنهم مواطنون عاديوُّن فيهم حماس الجاهل واندفاعه».
فارتاحت أسارير الأمير بندر، وقال: الآن وضَّحت لي يا أخ أحمد الموضوع كاملاً، فقد كان (رحمه الله) يتصف بالرزانة والهدوء وعدم التسرع في الأحكام على الناس، وهذه خصلة قل ما تجدها إلا في القليل من الرجال، وهي عدم التسرع في الحكم على الناس وسماع وجهة النظر الأخرى.
وعندما تحركنا لنقوم أشار بيده -رحمه الله- كأنه يستبقينا على العشاء فجلسنا على المائدة واستمرت الأحاديث حول ذكريات الأمير القديمة في مكة والطائف ومعرفته بالأستاذ العطار، وتذكر الشيخ عبدالله خياط والسيد أحمد علي وهما من أقدم المدرسين الذين استقدمهم الملك عبدالعزيز من الحجاز إلى نجد وفتحوا مدرسة الأمراء الأولى التي درس فيها كبار الأمراء ومنهم الأمير بندر بن عبدالعزيز، وكان موقعها بجوار قصر الملك عبدالعزيز في المربع، غفر الله للجميع.
وقد ورد ذكر تاريخ المدرسة بتوسع في كتاب أصدرته دارة الملك عبدالعزيز للسيد أحمد علي الكاظمي وهو مساعد الشيخ عبدالله خياط وعديله أيضاً.
أما عن حسنات الأمير بندر ومبراته الظاهرة والخفية، فقد كان يعين الجمعيات الخيرية ويسهم في بناء المساجد في عدد من المناطق ومن أشهرها مسجد كان يعرفه الناس في مكة المكرمة وأزيل في التوسعات، وقد بني في منطقة تسمى في التاريخ وادي إبراهيم وعرفت فيما بعد وإلى الآن بالمعابدة وكان من المساجد الحديثة التي بنيت بعيدة عن الحرم، له مئذنة جميلة وفتحت بجواره مكتبة للسيد صالح شعيب، وكنت إذا ذهبت إلى مكة أو في طلوعي إلى الطائف أقف وأشتري منها بعض المجلات الأدبية، وصاحبها السيد صالح شعيب، رجل فاضل وهو أحد وكلاء الأمير وتعرفت فيما بعد على ابنه الدكتور محمد صالح شعيب الأستاذ الأكاديمي في جامعة أم القرى. رحم الله السيد صالح ورحم الله الأمير بندر.
(ثم انقضت تلك السنون
وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام)
وأذكر أن من أصدقاء الأمير الحفيين في مكة، الشيخ عبدالله بن محمد بن عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ، وكان هذا الرجل -غفر الله له- من أكرم الرجال ومن أوسعهم صدراً، وكان الأمير يقضي بعض أيام رمضان في مكة في تلك الأيام، ويزور أهل الفضل ويستجيب لدعوتهم. وفي السنوات الأخيرة صادف أن زرت الأمير في الرياض مع بعض الإخوة من آل معمر، وبعد أن استقر بنا المقام قدم للسلام عليه الدكتور عبدالمحسن بن عبدالله بن محمد آل الشيخ الأستاذ في جامعة أم القرى ورئيس المجلس البلدي بمكة في ذلك الوقت وعضو مجلس الشورى حالياً، وأخوه أحمد وكيل إمارة الجوف حينذاك فحياهم الأمير وتحدث عن والدهم كما كان يتحدث عن كل من عرفه. وهكذا فقد كان الأمير يعرف للناس مكانتهم ويحتفي بالعلماء والأدباء، وله مجلس علمي يومي يُقرأ فيه من كتب الحديث والسير والفقه والتراث ثم يدور حديث ونقاش حول ما تلاه القارئ، وكان مجلسه مجلس علم وأدب وترفع عن الصغائر والقيل والقال، مما يعكس شخصية الأمير -غفر الله له-.
(وذكرني ذاك الزمان وطيبه
مجالس قوم يملؤون المجالسا
حديثا وأشعارا وفقها وحكمة
وبرا ومعروفا وإلفا مؤانسا)
وقد اتصف أبناؤه الكرام بصفات والدهم في الحلم والأناة وعدم التسرع واستقبال الناس ببشاشة والاستماع لمطالبهم، فقد تربوا في مدرسته وساروا على نهجه ومنهجه وتقلد عدد منهم كبير المناصب في الوزارات والإمارات وقيادة القوات وغيرها من القطاعات، وتركوا أثراً وذكراً حسناً في كل مكان عملوا به.
(وما أثنيت إلا بعد علم
وكم من جاهل أثنى فعابا)
وبعد فهذا قليل من كثير وغيض من فيض عن بعض ذكرياتي عن الأمير بندر -رحمه الله- ولا أستطيع في هذه المقالة القصيرة أن استدعي سيرته ومسيرته والتي أتمنى أن تدون وتوثق، لكنها بعض من ذكريات لم تمحها الذاكرة، وإن كنت تأخرت في تدوينها لظروف خاصة، علها تلقي ضوءًا على جوانب من شخصية الأمير الذي نفقد بفقده كبيراً من الكبار الذين تشرفت بمعرفتهم فزهدت فيمن سواهم.
(وما الحال إلا مثل ما قال من مضى
وبالجملة الأمثال للناس تضرب
لكل اجتماع من خليلين فرقة
ولو بينهم قد طاب عيش ومشرب)
رحم الله فقيد البلاد الكبير وأدخله مدخلاً كريماً، وإنني أتذكر في هذه الأبيات قول شوقي في رثاء الأمير وأمثاله:
(اجعل رثاءك للرجال جزاء
وابعثه للوطن الحزين عزاء
إن الديار تريق ماء شؤونها
كالأمهات وتندب الأبناء
ثكل النساء من البنين وإنما
ثكل الممالك فقدها الكبراء)