رمضان جريدي العنزي
البارحة جاءني طيفه، زارني من فجوج القدم، أعرفه منذ كنت صغيرًا، كان كبيرًا في السن ويسكن وحيدًا في غرفة من خشب، ويقتات على بقايا الهبات من الطعام، عندما يشاهد شاحنة النفايات متجهة نحو المكب يهرع وراءها ليبحث عن بقايا أسمال بالية، ودفتر وقلم ولعبة يهديها لأطفال حينا العشوائي العتيق عندما يلتفون من حوله بأريحية وأدب، كان رقيقًا وعطوفًا وبه خجل، يجلس كل مساء على كرسي مهترئ أمام غرفته الخشبية، يرتشف بيده النحيلة كوب الشاي، ويتناول قطعة من كعك، يحاكي نفسه مرة، ومرة يقول بعض النشيد، غرفته عبثية لا سرير فيها، تنبعث منها روائح فظيعة، ثمة الكثير من حوله، علب عصائر، وبقايا حديد، وأسمال كثيرة، وأحذية، ومجلات وأقلام وكتب، وقناني عطر فارغة وقطط، ثمة دكان صغير في أقصى الحي يهديه صاحبه بعضًا من الكعك والخبز والحلوى، سألته مرة بعفوية الطفولة البريئة: لماذا أنت وحيد؟ فكان سؤالي عليه كأنه نفخة دخان كثيف، أو سحابة صيف ثقيلة، سالت دمعته، وارتفع نحيبه، حتى أنني من هول نحيبه ومنظره هربت، كان يحب حساء العدس، وكنت أجلب له هذا الحساء، كان عنده مفارقة عجيبة، كان يعلق في غرفته روزنامة الأيام، ويهتم بها، وكان إذا مشى يهدل، وصدره له صفير، ويتوكأ على عصا من قصب، كان لا يحب الليل كثيرًا لأنه يراه موحشًا وكئيبًا، لكنه كان يحب منظر الغيم والديم والمطر، العجيب أنه كان يزرع أمام غرفته الخشبية بعضا من القمح، ويريده أن يكبر حتى يحصده!، كان يقول: أنا متعب وحزين، لكنني لن أستسلم لحياة تحاول أن تهزمني من غير سبب، كان محتاجًا لأن يبكي كثيرًا، سيما حينما يتذكر وضعه وحاله، وعندما يعجز عن البكاء، يستدعي (هجيني) من الماضي التليد، ثم يجول في طرقات الحي العتيق بلا هدف، الوجع دائماَ معه وإن تجاهله، أبدًا مثل وجع الياسمين عندما تستعذبه المناجل، ذات صباح جاءته حافلة حكومية صغيرة وأقلته إلى دور العجزة، بكيت كثيرًا لأنني لن أراه، لكن بعد بضعة أيام عاد إلى مكانه هاربًا، لأن الوضع هناك لم يلائمه، ولا يعرف كيف يتأقلم معه، ولم يرتاح، فرحت به كثيرًا، وكثيرًا به ابتهجت، قال لي بأن هذا مكانه، والمزاج فيه رايق وسليم، مضت أعوام و»معيبد» على هذا الحال، وحيدًا مثل قنبرة فر منها جمعها، لا أنيس ولا ونيس، ولا صاحبة ولا أخ ولا ولد، فقير كان، لكنه عطوف ونبيل، وكان مستعدًا أن يمنحك ثوبه المهترئ، كان تلقائيًا متناغمًا مع ذاته، ومن صنفلكائنات المسالمة التي لا تصدع رأسها ورؤوس الآخرين بالأسئلة الثقيلة، والثرثرة المملة، واختراع الكلام، ليس بمقدورك أن تكرهه، له ابتسامة خجولة يوزعها على المارة بامتنان وحب، كان يناديني من بعيد باسمي بأن أجيء لأنه وجد في المكب قلما جديدا يريده لي وحدي من دون أقراني، مرة كان ينبعث من مذياعه العتيق الذي يحمله معه أينما ذهب صوت فيروز: (أدّيش كان في ناسْ، عالمفرق تنطر ناسْ، وتشتّي الدني، ويحملوا شمسيّةْ، وأنا بأيام الصحو ما حدا نطرني)، قال لي: بأنه لا يعرف من هي، ولا يفقه ما تقول، لكنه طرب، ويشعر بشيء من الحزن والشجن، وقبل أن نرحل إلى حينا الجديد البعيد، ودعت هذا العجوز الوحيد حتى أنه بكاء بنحيب شديد، ثم قال: من لي بعدك يأتيني بحساء العدس؟ أحسست حينها بثمة ثقب كبير حصل في قلبي، وارتعاشة سرت في جسدي، ودوار كبير، أردف يقول: عضة الحزن بعدك مثل عضة الجوع في بطون اليتامى، لكنه خريف العمر يدق بابي، ويدق قلبي، فلا تنسى عنواني، أحفظه عندك، فربما يأتيني الموت على حين غرة، رمقته طويلاً، تألمت كثيرًا وبكيت، ثم عدت أدراجي استعدادًا للرحيل الكئيب، فسلام عليه في مرقده، سلام على طيفه الذي زارني البارحة، بحلة بيضاء، وابتسامة فارهة.