د. محمد عبدالله العوين
يترحَّم كثيرون منا على جيل (الطيبين) وهم المصطلح الذي شاع وذاع ويقصد به تلك الأجيال التي عاشت في أزمنة ما قبل الطفرة العلمية والتقنية وهيمنة مظاهر الحداثة المدنية على كل جوانب الحياة، يمكن نسبتهم إلى ما قبل عام 1420هـ وإن كان ثمة اكتشافات قليلة مهدت للطرفة العنيفة والسريعة في عالم الاتصال والتواصل الاجتماعي، ومن تلك الممهدات بدء البث الفضائي الذي انطلقت بداياته مواكبة حرب الخليج الثانية، وكانت قناة CNN الأولى التي تسيَّدت البث بالإضافة إلى قنوات الجيش الأمريكي المنقولة فضائياً، ولم تتأخر القنوات العربية عن اللحاق بعالم البث الفضائي فمع منتصف عام 1412هـ انطلقت قناة MBC والفضائية المصرية، وهكذا ابتدأ العالم يتغيَّر بتوسع مساحة المخاطبة والوصول إلى أبعد مسافات في الجغرافيا عن طريق الأقمار الصناعية.
إلا أن الطفرة الأبعد والأعمق تأثيراً كانت مع انطلاق الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) الذي حطّم الحواجز واقتحم الحدود وألغى كثيراً من حدود الخصوصيات الثقافية ويسر سبل الوصول إلى المعرفة واختصر المسافات بين الشعوب وقارب بين المفهومات الإنسانية عن الديانات والقيم والأخلاق والحقوق، هذا في الجوانب الإيجابية، أما في الجوانب السلبية التي لا يخلو أي اكتشاف من قليل أو كثير منها بطبيعة الحال فمعروفة للجميع.
جيل الطيبين لم يتنعم برفاهية هذه المكتشفات العلمية ولم يسعد بعطاءاتها؛ فكانت السيارة والطيارة والكهرباء والراديو والقناة التلفزيونية الرسمية (القناة الأولى) هي أبرز وأعظم اختراع نعم وسعد بها.
جيل الطيبين كان ينام باكراً بعد انتهاء المسلسل اليومي، ومن طال به السهر فبعد نشرة الأخبار الثانية، وكان يقرأ الصحف الورقية كلها أو بعضها، صفحة صفحة مع اختلاف الاهتمام بصحيفة دون أخرى أو موضوع دون آخر، ويقرأ الكتاب من الغلاف إلى الغلاف؛ إما تطلعاً للمعرفة أو تلبية لشغف بالأدب، أو تسلية لعدم وجود بدائل، ولذلك كانت الكتب المهمة أو النادرة أو الممنوعة لأي سبب تعار من يد إلى يد، وأعرف - على سبيل المثال - كتاباً طبياً كان ممنوعاً لحساسية ما كان يفصل الكلام فيه مشفوعاً بالصور كثقافة طبية كان ذلك الكتاب للدكتور صبري القباني يخبأ بين الكتب الأخرى أو تحت الجاكيت أو في مظروف وتتناقله الأيدي، وهو الآن أو ما يماثله يُباع في المكتبات وفي معارض الكتب وعلى صفحات الإنترنت، ولكنها حدود مفهومات ما هو حسن وغير حسن في زمان الطيبين.
كان الطيبون إذا أودعوا أموالهم في البنك لا يمكن أن يسحبوا ما يريدون منها إلا بزيارة للبنك لعدم وجود الصرافات، وإذا سافروا لا بد أن يطلبوا من البنك (شيك ترافيل) وهي شيكات بالعملات الأجنبية تعادل العملات الحقيقية، لعدم وجود بطاقات الائتمان المتعدِّدة.
وإذا أرادوا السفر فعليهم أيضاً أن يذهبوا إما إلى الخطوط السعودية أو إلى مكاتب السفر والسياحة التي كانت رائجة جداً -آنذاك- ويكلّفهم الانتظار مشقة وعناء ووقتاً طويلاً... يتبع