محمد عبد الرزاق القشعمي
محطات مهمة في حياته..
ولد الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي في الهفوف بالأحساء سنة 1359هـ الموافق 1940م، ومضى بها خمس سنوات، وكان كما يقول طفلاً وديعًا مسالمًا يقضي معظم أوقاته في اللعب مع الحمام، أو بِعدَّة النجارة. ولم يبق في ذاكرته عن الهفوف سوى بساتينها الجميلة، ودروازتها العتيدة، و(أم السعف والليف)-الأسطورة التي تطير بعد أن يخيم الظلام- إِذ كان يمنع من الخروج للشارع، فيبقى حبيس المنزل. وقال: إنه ولد في أحضان بيئة نفسية حزينة، قبل أن يولد بشهور توفي جدة لوالدته.. وبعد ولادته في الأحساء بتسعة شهور توفيت أمه على إثر إصابتها بالتيفوئيد وكانت في التاسعة والعشرين.. وعلى إثر وفاتها تكفلت بتربيته جدته لوالدته وكانت في حالة نفسية بالغة الكآبة بعد فقد زوجها ثم ابنتها الوحيدة، وانتقالها من المجتمع الذي ألفته وأحبته في الحجاز إلى مجتمع جديد غير مألوف في الأحساء.. ثم البحرين.. وقال: إن هذا الجو الكئيب قد نجح في التسلل إلى أشعاره.
غادر الهفوف إلى المنامة وبقي بها عشر سنوات، وأول مفاجأة أدهشته في البحرين كانت الكهرباء بعد أن يضاء ليله بـ(الفنر) أو (الإتريك) بالهفوف. والمفاجأة الثانية دخوله المدرسة.
وثالث مدينة رآها بعد الهفوف والمنامة كانت بيروت وهو في الثانية عشرة من عمره، ذهب مع عائلته للاصطياف. إِذ ركب الطائرة (داكوتا) من المحرق لمطار الكويت ثم إلى مطار بيروت، فانفتحت أمامه عوالم مثيرة للدهشة، إِذ رأى لأول مرة (الترام) والقطار وسيارات السرفيس، وأكل الشاورما والفلافل..
انتقل بعد المنامة إلى القاهرة لإكمال الدراسة الثانوية ومنها للجامعة، فدرس القانون، واشترى أهم الكتب المستعملة من سور الأزبكية، ورأى طه حسين يدخل كلية الآداب، وبيرم التونسي ينظم أشعاره في مقاهي سليمان باشا، وبلغت به الجرأة أن يجادل العقاد حول طبيعة الشعر الحر، فأصبح يكتب قصيدة كل يوم في القاهرة.
وهو على أبواب الثانية والعشرين من عمره انتقل إلى (لوس أنجليس) في الولايات المتحدة الأمريكية للتحضير للماجستير، التي قال عنها: «لوس أنجليس التي دخلتها برعشة الرهبة. فارقتها بدمع الحنين..»، ومنها إلى لندن حيث وجد كل في الحياة ووضع لها شعار (لكل ذوق ما يشتهي) من تناقضات البشر ومن كل التيارات.
قال: وكانت فترة كتابته رسالة الماجستير من الناحية الثقافية من أخصب فترات حياته إِذ كانت عن مؤلف ألماني أمريكي شهير في حقل العلوم السياسية، هانس مورجنتاو وتناولت بالشرح والتعليق نظريته في العلاقات الدولية. هذه النظرية يمكن تلخيصها بأن السياسة بكل أشكالها وأنواعها وفروعها ليست سوى صراع من أجل القوة... غير أنه عندما بدأ دراسته في لندن على يد أستاذ من ألمع أساتذة المدرسة الحديثة في العلاقات الدولية، جون بيرتون، تبنى تدريجيًا أن نظرية القوة، وحدها عاجزة عن شرح كل ما يدور في عالم السياسة.. وقال: «.. واستطيع أن أقول من دون مبالغة إنني منذ ذلك الحين فقدت القدرة فكريًا على التعصب أو التطرف لصالح أي نظرية من النظريات، بل أي فكرة من الأفكار، منذ ذلك الحين وأنا أدرك أنه لا يمكن أن نقسم الألوان إلى لونين اثنين، أسود وأبيض، وأن هناك آفاقًا لا تنتهي من الظلال والألوان».
نعود إلى طفولته التي عاد إليها في الجزء الثاني من (سيرة شعرية) وعن أهم شيء ترك أثرًا في حياته؟!
قال: «.. لا يوجد شيء محدد ترك أثرًا واضحًا في حياتي. هناك المئات من الأشياء التي تركت بصماتها على حياتي. خذ بعض الأمثلة: كوني ولدت في فترة معينة في بيئة معينة، كوني كنت أصغر أخواني وأخواتي. كون أمي توفيت قبل أن أبلغ السنة الأولى من عمري، كوني قضيت السنوات الأولى من حيأتي في حالة انطواء ومن دون أتراب أو أصحاب، كوني حصلت على فرص تعليمية ووظيفية لم تتوافر وقتها لمعظم الناس، كوني استطعت أن أتعرف وجهًا لوجه على عدة حضارات وأن أحتك بعدد من الشعوب.. كوني حظيت بقدر من النجاح كما حظيت بقدر من الفشل، كوني شهدت ميلاد الحب كما شهدت وفاة الأحباء، كوني شهقت مع روعة الشروق وتنهدت مع دموع الشفق، كوني عرفت الإنسان عن كثب ضاحكًا كما عرفته باكيًا، عرفته يائسًا كما عرفته سعيدًا، لا أظن أن صفحات الجريدة ستتسع لكل مؤثرات الحياة التي عشتها».
وقال عن سؤال: ما الذي تعتقد أنه أفضل شيء عملته حتى الآن؟
أجاب: «بالمعيار التعليمي، أفضل ما عملته هو التدريس في الجامعة قرابة عشر سنوات، الأمر الذي مكنني أن أرى الآن من بين تلاميذي أساتذة في الجامعة ومسؤولين يخدمون الوطن من مواقع مختلفة.
وبالمعيار التنموي أفضل ما عملته هو أنني أسهمت في العملية التنموية الشاملة التي شهدتها المملكة خلال العقدين الماضيين.. وعدد من النشاطات الخيرية... وعلى مقربة من صنع القرار السياسي، ثم أسهمت في تنفيذه على النحو الذي يخدم مصلحة الوطن.. وأحسب أن التاريخ أن تَذكّرني فسوف يذكرني شاعرًا فحسب.
على أن أفضل شيء يمكن للإنسان أن يعمله هو ما يراد به وجه الله وحده، الباقيات الصالحات وبهذا المعيار وهو وحده المعيار الحقيقي، رصيدي الوحيد هو الأمل في رحمة الرحمن الرحيم».
وقال: إنه إنسان يدرك أن لديه موهبة شعرية متواضعة.. فهو يتكلم بصدق، بعيدًا عن التظاهر بالتواضع. فالذين يتمتعون بموهبة من الدرجة الثالثة قد ينظرون نحوه بشيء من الغيرة، أما هو فيقف خارج الدائرة...
وقال: «لقد تعلمت من بقائي في الجامعة سنين طويلة، طالبًا واستاذًا، قواعد البحث العلمي والمنهج الموضوعي، وأعتقد أنني، مسؤول حاولت قدر طاقتي اعتماد الطريقة المنهجية أساسًا لصنع القرارات.. كنت دائمًا أذكر نفسي، مسؤولاً أن السلطة ظاهرة زائلة عابرة وأن على المرء أن يبذل دائمًا جَهده لئلا تؤثر خمر السلطة على إتزانه..».
وقال: إنه تعرض لثلاث مآس شخصية أليمة، أولها وفاة جدته لأمه سعاد خريف سنة 1965م التي تولت تربيته بدل أمه التي توفيت في سنته الأولى. والثانية وفاة أخيه نبيل في الرابعة والثلاثين من العمر سنة 1969م صاحب المكتبة العامرة.. إِذ قال: «.. لقد كانت وفاة جدتي صدمة أليمة ولكنها لم تكن مفاجئة، إِذ كانت في السبعين تشكو من عدد من الأمراض. أما نبيل فقد كانت وفاته مفاجئة نزلت علينا كالصاعقة..». والمأساة الثالثة وفاة مَلَكْ، زوجة شقيقه عادل عام 1970م إثر حادث تصادم. هذا على المستوى الشخصي.. أما على المستوى القومي فقد شهدت هذه الفترة نكبة حزيران الأسود.. الذي وضعته وجهًا لوجه أمام التمزق العربي والعجز العربي والذل العربي.. وقال: إن الهزيمة هزيمته لا هزيمة أنظمة أو دول..
وأحس إحساسًا غريزيًا أن حزيران لن يكون نهاية الآلام بل على العكس بداية فترة طويلة من السنوات العجاف في تاريخنا... ففقد كل ثقة بالشعارات السياسية وأصبحت تثير الاشمئزاز والاحتقار.. وعرف أن العدو الأول ليس إسرائيل فليست قوة إسرائيل سوى انعكاس لضعفنا الرهيب. ولا الاستعمار العالمي، فالمستعمرون لا يستعمرون إلا من يجدون لديه قابلية لأن يُستَعمر. وليست الزعامات العربية. فكل إناء بالذي فيه ينضح وكما تكونون يولى عليكم. منذ تلك اللحظة أصبح العدو الأول - في نظره - هو التخلف.. فكل خطوة نخطوها للابتعاد عن التخلف بأنواعه المادية والفكرية والاجتماعية والسياسية هو خطوة للتخلص من الهزيمة والانطلاق إلى الانتصار.
وقال عن الهزيمة العربية الكبرى بصفته من دارسي العلوم السياسية.. فقد أدرك أن الهزيمة الحقيقية ليست في فقد الضحايا ولا في خسارة المعارك ولا في ضياع الأرض، على فداحة هذا كله، ولكنها في قهر الإرادة السياسية للخصم وإجباره على الخضوع للإرادة السياسية المعادية... إلى أن قال: إلا أن إسرائيل حققت الانتصار الذي ظلت تخطط له منذ وجودها، وربما قبل وجودها. عندما (حج) إليها رئيس أكبر دولة عربية الدولة التي كانت حتى تلك اللحظة، تمثل قلعة الصمود العربي في رحلة للسلام كان من الواضح لكل ذي عينين أنها لن تنتهي إلا بالاستسلام للإرادة السياسية الأقوى..
وقال: «كنت ليلة الزيارة - المأساة أرقب التفاصيل على الشاشة الصغيرة وأنا أبكي بحرقة. لا أذكر أني بكيت منذ وفاة سيدي الوالد -رحمه الله-، كما بكيت ليلتها. والبكاء بطبيعة الحال ليس موقفًا بطوليًا ولكنه في رأيي، أشرف بكثير من مواقف اللا مبالاة، وأنبل بمراحل من مواقف التهليل والتصفيق للهزيمة النكراء..».
وقال: إنه بكى مرات ومرات عندما كان وزيرًا للصحة عامي 1402 - 1404هـ عندما يزور المستشفيات بصفة شبه يومية، ويعود محملاً بزاد من الدموع والآهات.
ولعل أقسى مشهد شاهده مشهد الشباب المصابين في حوادث السيارات.. إِذ كان يخرج من العنبر ليبكي.. حتى لا يبكي أمامهم.
وبكى للمرة الثالثة عند وفاة الملك خالد فقد كان إنسانًا قريبًا إلى روحه وشعر يوم موته أنه فقد أباه مرة ثانية.