د. فهد بن علي العليان
في واحد من أمتع وأنفع اللقاءات التي تجمع صاحبكم دورياً باثنين من أرقى وأنقى المثقفين الذين يتنفسون علماً وخلقاً وفضلاً، كان الحديث عن كتاب (وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره)، الذي يتطرق إلى سيرة بعض من عاصرهم ودورها الأدبي. وعند ذلك، تحدث أحدهما وأفاض حول أهمية مثل هذا الكتاب الذي يتحدث عن هؤلاء الأعلام الذين كان لهم دور في حياة طلابهم وأهل عصرهم.
بعد ذلك اللقاء بأيام قليلة، وحينما كان صاحبكم يركب السماء متوجهاً إلى جازان في مهمة عمل يوم السبت 5 ربيع الأول 1441هـ، بقي يتابع قراءته في كتاب (وديع) عن أعلام عصره، ثم ينقل بعض حروفه إلى منصة (تويتر)، وقبل أن تحط طائرته أغلق الكتاب وبدأ يكتب هذه الحروف المتواضعة عن الرجل الذي له من اسمه كل النصيب (الفاضل) د. محمد بن خالد الفاضل أستاذ النحو في كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
التقاه صاحبكم وتعرف عليه حينما دخل القاعة في مقرر النحو عام 1407هـ، كان (ولا يزال) رجلاً على وجهه البشاشة والهدوء والسكينة.
بدأ معنا في (أوضح المسالك) بهدوئه المعتاد ورزانته وعلميته وعلمه، فكان أخوكم يستمتع ويسعد بذلك المقرر وذلك الأستاذ، ينجذب إليه محاضرة بعد أخرى، وينصت كثيراً إلى طرحه ومعلوماته التي تتدفق بشكل جميل يشعرك أن النحو من أمتع المقررات، بل إن أسئلته في أعمال السنة - التي يحتفظ بنسخة منها - لم تكن بصورة تقليدية، بل فيها روح الجدة والتجديد.
فصل دراسي كامل تمنى صاحبكم أنه لم ينته ليحصل على أكبر قدر من الفضل مع هذا الأستاذ (الفاضل)، بل إن طرح ومتابعة الأسئلة لم تكن داخل القاعة فقط، حيث كان أخوكم يلحق به مع مجموعة من طلاب الكلية خارج القاعة ليكملوا استفساراتهم عن بعض ما أشكل عليهم، وكان (أبو حسان) يصغي ويستمع إلى كل واحد برحابة صدر وبشاشة، والابتسامة والهدوء لا يفارقانه، وإذا مشى في ردهات الكلية فلا أحد يخطئ خطوات الفاضل الذي يحيي كل من لاقاه ويجيب كل من ناداه.
وهنا، ليسمح لي الزملاء أصحاب النحو -الذين عهد عنهم الشدة والحزم- أن أنقل كلاماً لأحد أساتذة الكلية حين حدثني قبل سنوات عن (الفاضل) قائلاً بعد الثناء عليه: نحن في كلية اللغة نستغرب أن يكون (أبو حسان) مع أهل النحو، للطافته ورقة أسلوبه! أعرف سلفاً أن هذا قد يغضب أهل النحو، وقد يكون هذا الانطباع إيجابياً، فلم الغضب؟!
أعود للحديث عن الرجل (الفاضل) الذي عرفه صاحبكم طالباً استفاد منه كثيراً، وإن نسي فلا ينسى أنه - مشكوراً - وقف معه وقفات: بدءاً من التفكير في تغيير المسار في الدراسة الجامعية، فنصحه بالمواصلة خوفاً أن يكون الانتقال من كلية إلى أخرى بداية للخروج من الدراسة الجامعية. ثم لا ينسى الدعم الذي تلقاه من أستاذه (الفاضل) لإكمال دراسة الماجستير في علم اللغة التطبيقي عندما كان معلما في ثانوية حي الشفا، إذ دعم ذلك كثيرا وزكى صاحبكم علميا، فقد التقاه في مكة نهاية عام 1412هـ، وكان يشغل خاطره هاجس إكمال مرحلة الماجستير، فلقي التأييد والدعم الكبير من أستاذه، لينطلق في دراسته في الفصل الدراسي الأول لعام 1413هـ، في الفترة المسائية ، حيث يقضي نهاره مع طلابه في الثانوية، ويعود منها ليتوجه بعد العصر إلى جامعة الإمام، وعندما انتهى الفصل الدراسي الأول من السنة الأولى وإذا به يحصل على الترتيب الثاني على الدفعة. وفي ذلك الوقت يطلب منه رئيس القسم أن يتقدم بطلب أن يكون (معيداً) للحاجة إليه، وعندما أخبر أستاذه (الفاضل) ابتهج وفرح، وكتب خطاب تزكية إلى عميد معهد تعليم اللغة العربية يحتفظ صاحبكم بنسخة منه ولعل الفرصة تتاح لنشره لاحقاً.
وفي إحدى صباحات الفصل الدراسي الأول من عام 1414هـ، يأتي اتصال إلى مدير الثانوية ليطلب منه إبلاغ الأستاذ فهد العليان بالتواصل مع جامعة الإمام، حينها أخبروه بالموافقة على تعيينه (معيداً) في قسم اللغة التطبيقي. ابتهج صاحبكم وتردد وبدأ يستشير، فكان أستاذه (الفاضل) من أوائل المستشارين والداعمين، فأكمل أوراقه ولا ينسى تزكيات ودعم أستاذه حتى حط رحله في الجامعة.
غاب الأستاذ (الفاضل) عن الوطن بضع سنوات يخدم وطنه مشاركا في تأسيس معهد العلوم الإسلامية والعربية التي أنشأته الجامعة في أمريكا. وقد أسهم بشكل كبير مع أساتذة آخرين بتعليم اللغة العربية ونشرها، ولقي ثناء من كل الذين عرفوه وعملوا معه أو قريبا منه.
لم ينقطع الاتصال والتواصل، وعندما أنهى صاحبكم مناقشة الماجستير، نصحه أستاذه وساعده بالتقديم على الإيفاد للعمل في المعهد في واشنطن في تعليم اللغة العربية لغير العرب، قبل البدء في دراسة الدكتوراه.
وكان له ذلك، فغادر للعمل في المعهد ودعواته لأستاذه لا تنقطع.
استمرت العلاقة والتواصل مع الأستاذ الفاضل، يزوره تلميذه كلما عاد للإجازة في ربوع الرياض، حتى أكمل دراسة الدكتوراه عام 2001 ، واستقر في الرياض، ليلتقي معه من وقت لآخر مستنيراً برأيه ومقدراً لكل وقفاته في مشواره العلمي والعملي.
بقي الفاضل في جامعة الإمام التي أحبها مثل بيته، ثم انتقل للعمل في جامعة الأمير سلطان، وبقي صاحبكم يتابع حروف أستاذه التي يكتبها داخل مجلة الجامعة ويتابع نشاطه العلمي والثقافي في المجلات العلمية المحكمة التي أصبح عضواً فاعلاً فيها.
هنا، يشعر صاحبكم أن الحروف طالت، وأنه لم يكتب شيئا عن الرجل (الفاضل)، بل يشعر كثيراً ويعلنها في «الجزيرة» عن تقصيره في حق أستاذه؛ نظراً لكثرة الارتباطات وظروف العمل وسرعة مضصي الوقت.
وهنا، يطبع الطالب (قبلة) على رأس أستاذه الفاضل أمام الملأ كما يفعلها عندما يراه في كل مكان، اعترافاً بفضل (الفاضل) واعتذاراً عن التقصير الذي يزيد مع مر الأيام ومضي السنوات.
الفضل (للفاضل)