سهام القحطاني
لكل شعب ولكل مجتمع طريقة خاصة للتفكير تتشكل في ضوئها النسق الفكري لذلك الشعب ولذلك المجتمع، فهل نستطيع أن نقول إن هذه الطريقة هي المعادل للعقل المعرفي، أو هي ذاتها «العقل المعرفي»؟.
العقل في ذاته هو «القدرة على الإدراك والفهم والتمييز وإنتاج عمليات فكرية موازية» لتطوير الوجود المادي للإنسان وذلك التطوير لا يتم إلا من خلال المعرفة كونها المحتوى الذي يقدم له كيفية ذلك التطوير وآلياته.
القدرة على كيفية بناء تصور تطبيقي قائم على منظومة معلوماتية يفرضها الواقع كمؤثر غير مباشر لتطوير المعرفة الساكنة ومناهجها، باعتبار الواقع مصدر مشكلة معرفية وجسد التجربة.
فقد توصل العقل الإنساني إلى أن ما يحيط به عبارة عن مادة تسير وفق أنظمة وقوانين وأنماط، فلكل مادة كينونتها المعرفية، وهذا التوصل هو الذي بنى القاعدة المعرفية الأولى له.
وبذلك فالعقل هو فاعل المعرفة عبر ما يمتلكه من قدرات التعقل والمنطّقة، تلك القدرات التي بدورها توطّن أشكال المعرفة عقلا وتٌأنسن تطبيقاتها.
تتكون البنية المعرفية من خلال منظومة من «المؤثرات» المحفّزة على اكتشاف الماهيات، مثل مؤثر الإدراك والفهم والأيديولوجيا والبحث العلمي والاستشراف وهذا المؤثر هو المختص بالفلسفة والتنظير وتصور شكل معرفي مُساهم في تجديد البنية المعرفية باعتبار القيمة المضافة المرتبطة بترقية الوعي الفكري وتطوير التجربة الحياتية في هيكلها الجمعي.
بدأ التنظير للعقل المعرفي منذ إرهاصات الفلسفة من خلال المصطلح الذي عُرف «باللوغس» والذي انبنى على هل المعرفة هي وجود بالقوة أو وجود بالفعل؟.
فكل أصل مادة أو جوهر هي قدرة صامتة حتى يأتي العقل فيصنع منها «كينونة فاعلة» يُشتق منها الأنظمة والقوانين والتطبيقات العلمية بمختلف أنواعها ومستوياتها وترتبط قوة تلك الاشتقاقات والإضافات المصاحبة لها بترقي المنهج الفكري للعقل الإنساني وأدواته وآلياته.
لاشك أن حاصل آليات مؤثرات أسس البنية المعرفية؛ الإدراك والفهم والأيديولوجيا والبحث العلمي والاستشراف قابلة للتطوير والتجديد والإضافة، ووفق سلم التطوير المتنامي سواء على مستوى أدوات أو طرائق الإدراك والفهم والبحث العلمي.
والاستشراف، ينعكس إيجابيا على تطوير مصادر المعرفة ومحتواها وتنوع ذلك المحتوى والتصورات الممكنة للإضافات التي توسع أفق بنية المعرفة.
إن مصادر تأسيس العقل المعرفي تكاد أن تكون واحدة، لكن لماذا يتفاوت المستوى النهضوي والحضاري للعقل المعرفي من مجتمع لآخر أو من شعب لشعب؟.
العقل المعرفي لأي شعب من الشعوب تتشكل أسس بنيته المعرفية وفق معتقداته المعرفية، وتلك المعتقدات بدورها هي التي تُصمم له معايير طرائق التفكير وأساليب البحث والتعبير، وهذه الإطارية المعيارية كموجه للتفكير هي التي تفرض على العقل المعرفي شرطية التخصص والانتقاء.
كما أن ارتباط العقل بالمعتقدات المعرفية سواء في أولياتها أو أولياتها التي نسميها بالموروثات ومعادلاتها، تقيّد البحث المعرفي في شموليته «بالمعلوم» أو ما يُمكن قياسه وفق ذلك المعلوم، وهو أمر يحجز «قيمة الإضافة» ويجمد قدرات العقل المعرفي ويورثه التخلف.
إن العقدية المعرفية لأي شعب من الشعوب -وهذه العقيدة لا تكون إلا في المجتمعات الدينية- تنبني على «اليقين والمعلومية» وهما غالباً ما يكونان حاصل المنهج الفكري المتجذر من الدستور الديني للشعوب وضوابطه الفكرية وشرطياته التجريبية.
وبذلك فإن أي فكرة معرفية ينبني منهجها على الشك والمجهولية -مصدرا الحرية الفكرية- خلاف المنهج الرئيس تتعارض مع الإطارية المعيارية التي تشكل من خلالها العقل المعرفي، والأمر لا يكون محصوراً على الاستقبال بل يشمل حاجزية الاندماج.
وبذا نستطيع القول كإجابة على سؤال فاتحة الموضوع إن ما تعوّد عليه أي مجتمع من نسق فكري في تنمية تصوراته المعرفية هو معادل للعقل المعرفي لذلك المجتمع يحكم ويؤثر.
وهنا يقع الصراع المعرفي بين العقل المعرفي التقليدي لأي شعب والعقل المعرفي النهضوي القائم على مبدأ الذرائعية والذي بدوره يعتمد على التجربة المتحركة وهي حركة تتمرد على قيمة الجذور سواء في يقينيتها أو معلوميتها.
وبذلك يمكن القول إن العقل المعرفي هو مجموع المناهج الفكرية المعتمدة في البحث والتجريب والاستقصاء والتحليل بطرائقها وأساليبها وأدواتها وآلياتها وبرامجها وتطبيقاتها.
وكلما اتصفت تلك المناهج بحرية المعتقد وإحاطته بمقام الواقعية والنفعية كانت مساهمتها أكثر ترقية لحاصلها.
وبذلك ارتبطت مناهج الفكر والعلم بمؤشرات النهضة والحضارة لتأثيرها على اقتصاديات التعليم والثقافة والإنتاج الصناعي منذ عصر القطار البخاري حتى اليوم عصر الذكاء الاصطناعي.
إن هذه القفزات الحضارية للتجربة الإنسانية يكمن خلفها مناهج فكر العقل المعرفي، التي كلما تحررت من قيود الموانع الفكرية انطلقت نحو أفق مفتوح من الابتكار والاختراع التي كانت تُحسب في ماض الإنسان من السحر.
وارتباط مناهج العقل المعرفي بمؤشرات النهضة والحضارة حولتها إلى «ثورة استثمارية» تتفوق الشعوب من خلالها وتستعمر عقل الآخر من خلالها وتتحكم في النظام العالمي من خلالها.
وهذا الأمر يؤكد على أن «قوة العقل المعرفي» ستظل مصدراً مستداماً لتفوق الشعوب وهيمنتها.