د. إبراهيم بن محمد الشتوي
وإضافة إلى ما ذكر سابقًا من أدوات إقناعية في تكوين المقول، هناك أدوات أخرى يسلكها الكاتب في بنائه، فتأتي في صميم الحديث، فهو لا يكتفي بالحديث عن الملابس أو وصفها، أو بيان أهميتها للابس، بل يتجاوز إلى البحث عمّا يكسب المقول أهمية من عناصر تعود إلى التاريخ، والثقافة، والأدب وغيرها، فنجده في بعض الأحيان يبني تاريخًا للملابس، فيقسمه إلى حقب تاريخية: حقبة الستينيات، والسبعينيات والتسعينيات وسواها، ويجعل انتماء هذا اللون من اللباس أو التصميم إلى حقبة من الحقب عاملاً في فهم استحسانه وقبوله لدى الناس، واتخاذه رداء، فالبناطيل الممزقة تجد تسويغها بناء على أنها تعود إلى حقبة التسعينيات المشاكسة، وملابس الستينيات تجد القبول بوصفها ثابتة في الأذهان أسلوبًا قديمًا ومتجددًا.
وربما تتبع تاريخ تطور انتشار اللباس نفسه منذ بدايته الأولى إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن كحديثه عن استعمال الجلد الذي أعاده إلى حقبة سكان أمريكا الأصليين حين كانوا يكتسون بجلود الحيوانات اعتقادًا أنه يمنحهم قوة ما أخذ منه، وفي القرن التاسع عشر ارتبطت بناطيل الجلد برعاة البقر، الأمر الذي أكدته صورتهم في سينما الأربعينيات من القرن العشرين، ثم اكتسب معنى خاصًا مع فرق الروك بما تعنيه هذه الفرق من صخب وعنف وخروج عن المألوف في حقبة الخمسينيات والستينيات، ولم تبدأ النساء بلبسه إلا في السبعينيات، مواصلاً تتبع تطور قيمته في اللباس إلى يومنا هذا.
أو قد يعني بالتحولات التاريخية التي أصابت اللباس وتطورات التصميم التي كان عليها، فيذكر أن انتشار المعطف يعود في أساسه إلى شبهه في «الكاب» الذي كان يحظى بالقبول بين النساء، وأن ظهور الأنشطة الرياضية بين النساء دفعهن للبحث عمّا يقارب الكاب مع قلة الحجم فكان المعطف الطويل.
وقد لا يبدو للوهلة الأولى أن هناك أهمية لهذا الربط ولكن الحقيقة تبدو حينما نعود إلى «الكاب» وطبيعة ارتدائه المتصلة بالثقافة في المقام الأول، نجد أن هذا يمنح المعطف هذه الوظيفة، ويزيل ارتباط ارتدائه بالحاجة إلى الوقاية من البرد، وهذا ما يبرر حضوره الكبير في الأزياء النسائية بكل المواسم سواء أكانت باردة أم حارة.
ثم تطور المعطف إلى ظهور ما يسمى بالفستان المعطف، وهو فستان في تفصيله، وملامحه العامة ولكنه على هيئة معطف كلاسيكي، وهذا يعني مرة أخرى أنه يقوم بوظيفة المعطف الذي يقوم بوظيفة الكاب، الأمر الذي يعني بدوره أن الدافع الثقافي القيمي هو الحافز لظهور هذا النوع من التصميم، وأن ارتداءه في المناسبات العامة والخاصة هو صدى لتلك الثقافة، ومن هنا جاء وصفه المعطف بأنه «أكثر الأزياء وقارًا واحتشامًا».
وقد لا يتصل توظيف التاريخ في المقول باللباس نفسه كما سبق من أمثلة، وإنما يكون بتوظيف حدث تاريخي معين، كربط زي فرقة تيدي قيرل Teddy Girl بالحرب العالمية الثانية، مع أنه لا يتصل على وجه الحقيقة بالحرب بشيء ذي بال إلا من البعد الزمني.
فالفرقة المؤنثة نشأت على غرار فرقة الأولاد تيدي بوي، التي كونت زيها من أزياء الروك آند رول الأمريكية مدموجًا بالحقبة الإدواردية في التاريخ الإنجليزي، وهذا ما يعني أن الحرب العالمية الثانية لا تمثل شيئًا سوى أنها تحديد زمني.
إلا أن ربطها بالحرب يذكرنا بما تتسبب به الحروب عادة من غياب للذكور الذين يخرجون إلى ميادين القتال، وقد لا يعودون، فتقوم النساء مقامهم في أعمالهم اليومية سواء داخل المنزل أو خارجه، وهذا ما يكسبهن قوة في مجتمع ما بعد الحرب، ويغير نوع العلاقة بين الذكورة والأنوثة ولا أقول الذكور والإناث.
هذه العلاقة تنعكس بعد ذلك على اللباس، فتجعله أمرًا لا صلة له بالذكورة والأنوثة، وإنما يتصل بالوظيفة التي يريد أن يقوم بها المرتدي أو الصورة التي يريد أن يظهر بها، وهو ما يمنح هذه الأزياء مقبولية، والمقول فيها قدرًا من الإقناع بوصفها لا تناقض الأنوثة التي تسعى إليها النساء لتحقيق الجاذبية وتحبب كثير من الألبسة إليها، بقدر ما هي رغبة في إبراز البعد الذكوري في المرأة ويمكن أن نقول الحقبة التاريخي التي قامت فيها المرأة مقام الرجل، وهذا ما يعكسه البعد الثقافي لتبني تيدي قيرلز لزي مناظريهن من الذكور إشارة منهن أنهن لا يختلفن عنهم في شيء.
كما تأتي عناصر الثقافة الأخرى مكونًا حاضرًا في المقول حول اللباس، فبعض التصاميم تتصل بالمرحلة الكلاسيكية، وأخرى بالرومانسية، ومعلوم أن هاتين الحقبتين من أبرز الحقب في الأدب والفن، كما أن المصممين يستمدون بعض أفكارهم من خيال الشعراء، وبوحي من الحركة الثقافية والفنية سواء في التفاصيل أو في الألوان التي تأتي مستجيبة للمدارس الفنية المختلفة حتى إنه ليصف مكونات اللباس بعناصرها مختلفة الألوان «باللوحة الجميلة المفعمة بالحياة والحيوية»، وهو ما يمنح هذه التصاميم بعدًا فنيًا، فيزيد من قبولها لدى المتلقي (المرأة).
وهذا المقول الذي تقدم به الملابس المبني من مكونات، تتضافر فيها الحجج العقلية المنطقية بجانب توظيف الثقافة والتاريخ والفن، يجعل الملابس ذواتًا حاضرة لها شخصيتها التي تتميز كل قطعة فيها عن الأخرى، بتاريخها، وأصولها التي تنحدر منها، وبالأسباب التي تجعلها تظهر بهذه الصورة أو تلك، تسهم كثير من العناصر الفنية والجمالية في تكوينها، ويكون لكل قطعة فضاؤها الذي تتوهج فيه كالمساء أو النهار، أو السهرة أو العمل أو الرسمية وغير الرسمية مما يزيد في استقلالها، وبروز تلك الذات.