«الجزيرة الثقافية» - محمد هليل الرويلي:
كأن الصحراء نذرت ضيفنا اليوم «ذاكرة للبقاء» لتتحقق أنها ما زالت موجودة, وأن ذرّات قفارها ورمالها المُصْفرّة والقيظ ما زال موجودًا، ترتل بلغتها الصحراوية «فائز»وحالهما أن يُديما المكث تهطلا. لتبلَّ عروق الغضى ويستطيل الشيح. شاهدا عليهما.
ضيف زاوية (ذاكرة الكتب), الباحث والمحقق «فائز دميثان الرويلي» أحد من أصرّت الصحراء أن لا تتخلى عنهم, اكتنزته ليبقى إلى جوارها وأغذقت له الحكايا. ولما تحقق منها وتحققت منه, ألِف كل منهما الآخر, وفتحت له صدرها وسبلها الفجاج. فانطلق قلمه من فج فجر تنفس إصباحه, ألفت الصحراء باحثنا, وسكنته المدينة وسكن بها, حتى حصل فيها على الإجازة العالية «بكالوريوس» كلية الدعوة والإعلام، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع المدينة المنورة عام 1422هـ
شيخي دفعني للتحقيق
أوضح الباحث والمحقق «فائز دميثان الرويلي» أن شيخيه المصري «أحمد عبدالله باجور- 2007/1428م» يرحمه الله, شجّعه على البدء في الكتابة في مجال التحقيق والبحوث في المخطوطات القديمة, خلال اللقاءات التي جمعتهما داخل رواق مكتبة المسجد النبوي ومكتبته الخاصة, ودار النشر التي كان يعمل بها. عندما استشف شغفًا ولامس ولعًا ينقلني أنحاء أدب الرحلات, والسّير وللعناية الفائقة التي أوليتها للمخطوطات القديمة, فكان - رحمه الله - يستنهض همتي, للحاجة الماسة لتوضيح بعض الصورة والجزئيات المغلقة فيما حوته وضمته الكتب القديمة والمخطوطات وتحديثها للباحثين والدارسين والقُرّاء. لكنّي اعتذرت لشيخي للصعوبة التي يعلمها والمشقة التي يقدّرها.
«رحلة مِشْعَلُ المَحْمَل والتنوخية»
وقال الرويلي: وبعد أن وقعت (رحلة مشعل المحمل) في يدي، وهي رسالة في سير الحاج المصري برًّا عام 1880/1297، للواء محمد صادق باشا, قررت العزم على إعادة بعثها من جديد وهنا بدأت في دراستها وتحقيقها ثم طبعتها عام 2014/1435. وهناك أحد الفضلاء الذين يبيعون الكتب القديمة والمخطوطات النادرة والمصورة، فوجدت عنده (رحلة في الأرض المقدسة) لإبراهيم حبيب وهي أيضًا رحلة حج مصرية عام 1938/1356، فأعدت بعثها من جديد وطبعتها عام 2014/1435. إضافة إلى (الرحلة التنوخية من حلب إلى الجوف) عام 1914/1332 لعز الدين التنوخي، التي قمت بتحقيقها الأخرى وطبعتها عام 1436/2015. فيما كان عنوان أخر كتاب تيسر لي طباعته (نبذة مختصرة من سيرة الإمام الشافعي ورحلته في طلب العلم) عام 2018/1439.
«الموطَّأ» أكبر من عقلي
وعن البدايات وعلاقته بالكتب غير المنهجية قال: لا زلت أتذكر أحد أيام العام 1983/1403, إذ أعجبتني سيرة الإمام مالك صاحب المذهب المالكي في الفقه، وكتابه المشهور: «الموطَّأ»، كتبت اسم هذا الكتاب وجلبه والدي يرحمه الله, وبعد أسبوع أخذته بزهو - وهذا أول كتاب أشتريه- متفاخراً أمام زملائي بالموطَّأ, ولكونه أكبر من عقل طالب مثلي في صفه السادس، إذ يعد من مصنفات اهتمامات طلبة العلم الكبار, وعليه مدار المذهب المالكي في الفقه, فقد أخذه المعلم «مُسَلَّم بن حمود الجهني» ليقرأه, في هذي الأثناء لم تسعني فرحة كون معلمي يقرأ كتابي. كما يجدر القول إن «تاريخ الخلفاء» للسيوطي، أول كتاب أستعيره في عام 1984/1404، من مكتبة الشيخ سليمان بن تركي إمام جامع الأمير سلطان بوعيرة في المدينة المنورة، والذي كان صديقاً لوالدي يرحمه الله، وأتممت قراءته في ثلاثة أيام، هذا الكتاب عرّفني بميلي لعلم التاريخ.. ثم تلاحقت الكتب وزادت العناوين في مكتبتي من مختلف العلوم جمعتها من مكتبات: المدينة المنورة, مكة, جدة, الرياض, الجوف, عَمَّان, إربد, دمشق, القاهرة, الكويت, الدار البيضاء, الرباط, مراكش. قراءة الكتاب لا تتطلب على أكثر تقدير من أسبوع. وبعد التخرج من الجامعة عام 2001/1422, بدأت رحلة الكتابة والتأليف بشكل حُر – التي أشرنا لها- وكان كتاب (مقالات في القمة). وكتاب (مكارم الأخلاق) المنتقى من الحديث النبوي الشريف طبعته مرتان: عام 2006/1427 و2015/1436, ثم شرعت في تأليف كتاب: قبيلة الرُّوَلَة في التاريخ, وعقبه كتاب: عنزة الوائلية في كتابات الرحالة والمستشرقين.
يأخذكم للبلغار والروس وشعب الفايكنج
ولأن أحد أهداف الزاوية (ذاكرة الكتب) إثراء قُرّاء (الجزيرة الثقافية), وترك وصية يقدمها الضيف. اختتم الباحث والمحقق «فائز الرويلي» وصيتي لمن هم مولعون بالكتب وقراءة الروايات والقصص, جربوا قراءة كتب الرحلات، فإنها قصص حقيقية. فالرحالة يأخذك معها في رحلته. فتشاهد مع ابن فضلان مثلاً بلاد البلغار والروس وشعب الفايكنج، وكيف كان المسلمون يتفوقون على هؤلاء في ذلك الوقت حضارياً وثقافياً, وأخيراً وليس آخراً: الأمة التي لا تقرأ لا يمكن أن تنهض أو تشارك في البناء الحضاري؛ لكن ما هو الذي نقرأه؟ يجب أن يكون مفيداً لنا بشكل شخصي، يوافق رغباتنا وهواياتنا، كما يجب أن تكون القراءة بشكل جاد ومركَّز، وليس لتزجية الوقت، فهذا النوع من القراءة يُخرج لنا شخصاً مثقفاً؛ لكن لا يخرج لنا مفكراً أو كاتباً جاداً.