أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: لا يغركم أن تروا شابّاً مخنفساً يعيش لشهواته وأهوائه؛ وربما صادته حبالة إبليس؛ ففارق بيوت العبادة مدّةً من الزمن؛ وإنما يهمكم عهود النشأة: هل غرستم في قلوب أهلكم وأبنائكم محبة الله ورسوله، ومحبة دين الإسلام؟.. هل حايلتموهم في لحظات ما بالغدوِّ إلى بيوت العبادة؟.. إن فعلتم ذلك فلا تخافوا نزوات التخنفس؛ إذن لا بد من العودة إلى الله، وإلى عهود النشأة؛ وما ندر أن يموت ابن الفطرة مرتداً والقلوب بيد الله سبحانه وتعالى؛ ولقلما مات ابن الفطرة مصراً على فسقه.. عليكم بالتنشئة الصالحة، وليس عليكم أن تلمسوا ثمارها عاجلاً.. قال أعمى المعرة:
وينشأ ناشىء الفتيان منّا
على ما كان عوّده أبوه
وأنا أوصي المسلم وإن كان أفسق من جرذ: أن يكون مثالياً أمام أهله وزغبه.
قال أبو عبدالرحمن: احذروا موالج إبليس لعنه الله؛ وليس هو من الملائكة المكرمين؛ وإنما هو من الجن ففسق عن أمر ربه.. وموالج إبليس اللئيمة يعرفها الناس بداهةً؛ ولكنهم يقعون في حبائلها بيسر مع سابق المعرفة بها؛ وهذه الموالج استوعبها الشيخ (أبو الفرج بن الجوزي) -رحمه الله تعالى - في كتابه (تلبيس إبليس) بعرض ممتع؛ ومن هذه الموالج أن بعض المسلمين يندفع بعاطفة دينية رقيقة إلى التزيد بعبادة لم يشرعها الله يتعبد لله بها عن حسن نية؛ ويدخل في هذا معظم البدع والخرافات التي تألفت وانتشرت في العالم الإسلامي أيام عز الخلافة الإسلامية العثمانية؛ ولا سند لهؤلاء المسلمين المخدوعين بالبدعة: سوى العرف والعادة والاقتداء بعلماء أفاضل أخطأ اجتهادهم؛ وربما تشبث بعضهم بالحوار العقلي زاعماً أن هذه البدع بدافع حماس ديني، وعاطفة رقيقة مشبوبة يقصد بها وجه الله سبحانه وتعالى؛ وخير العمل ما قصد به وجهه.. كما أن من يدع هذه العبادات المبتدعة: يوصف بجفاء الطبع والبداوة.
قال أبو عبدالرحمن: الأمر أسهل من ذلك؛ فقد طبعت كتب العلم، وانتشرت بين المسلمين؛ وكان أغلب المسلمين مهيئين للفهم عن الله؛ لأن الأمية في سبيلها إلى الزوال؛ وعلى هذا فالحجة قائمة على كلِّ من حمل القلم إذا لم يراع البديهات من أمر دينه؛ وأهمها أنه صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: (كلُّ عمل ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ)؛ فالعمل غير مقبول حتى يكون صواباً؛ والعمل الباطل لا يسوِّغه حسن النيَّة.
قال أبو عبدالرحمن: العمل الصواب الذي قصده الشرع من المكلّفين غير غامض ولا معمى؛ لأن كلام الله سبحانه وتعالى؛ وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لا يفهم إلا بلغة العرب في حقيقتها ومجازها؛ إذن فلا حاجة إلى تأويلات مدعي الرّمز والكهانة؛ وقصاري القول: أن العبرة بنصوص الشرع، وليست العبرة بالظواهر الاجتماعية الخاطئة في بعض تاريخ المسلمين؛ وكل تعبُّد لم يجر عليه عمل الرسول وأصحابه؛ فهو عبادة مستحدثة؛ وإذن فهو بدعة، ولا يسعنا إلا ما وسع أول سلف صالح. قال أبو عبدالرحمن: برهاني النيِّر: أن ما ورد في القرآن الكريم والسنَّة النبوية المطهرة من حكم ووصايا ووعظ: حقائق يقينية ينصرها العقل والتجربة؛ ولكنها وردت بصيغ تخاطب العواطف، ولم تكن قوالب عقلية جامدة، ولا ينبغي لمسلم تشرَّب الإيمان في قلبه، وبهرته آيات ربه: أن يشكك في معقولية تلك المواعظ؛ لأن الوصايا والحكم والمواعظ تدعو إلى السمو بالنفس وتطهيرها وإراحتها بالوئام؛ وهو الوئام بين السلوك والعقيدة، وبين العقل والقلب، وبين الإنسان وغيره من البشر والحيوانات وشتى مظاهر الكون؛ والله سبحانه وتعالى خالق البشر بعقولهم وغرائزهم؛ وهو خالق البشر والحيوانات والكون كله؛ وهذه المواعظ وهي وصاياه؛ فلا بدَّ من اليقين بأن خالق الخلق أعلم بما يصلحهم وما يصلح لهم؛ وإنما خاطب الله العواطف؛ لأن مواعظ القرآن مستقرة في القلوب، ونحن نعلم أن الفكر والتأمل يسبق المعتقد، ومقر الفكر العقل، ومقر العقيدة القلب؛ وإيمان القلب هو أقوى درجات الإيمان؛ لأن الإيمان لا يقر في القلب إلا بعد اقتناع العقل، ومن ثم يتحول الإيمان إلى عواطف تبدو في سحنات الوجه؛ فترى المؤمن بطريق القلب تحمر وجناته، وتنتفخ أوداجه إذا أهين في عقيدته.. أما إيمان الفيلسوف فلا يتحول إلى عاطفة؛ لأن إيمانه مجرد غطرسة عقلية لم تتحول إلى القلب.. إذن فما أوصى به القرآن من أخلاق فاضلة قد وقر في القلوب فاستحثّ الله عواطفهم للتعصب للخلق الفاضل.. وإن إرادة الإنسان أسرع استجابةً للقلوب؛ بل إن الإرادة ضعيفة أمام العاطفة، قاسية جبارة أمام العقل، ولا مجال بعد هذا للقول بأن مواعظ القرآن المتعلِّقة بالأخلاق ليست حقائق يقينية؛ إذ لم ترد ذلك بقوالب المنطق الجافة؛ وإنما أكدت على هذه الناحية؛ لأن بعض الناشئة في بعض البلاد العربية تستهين بالمواعظ وتقول: لسنا في حاجة إلى وعاظ، وإذا سمعوا المواعظ قالوا: هذه موعظة وليست فرة.. وقد يكون عذرهم في هذا الادعاء الظالم: أنهم يسمعون وعَّاظاً منافقين يفعلون خلاف ما يقولون؛ فضعفت ثقتهم بالمواعظ.. وقد يكون عذرهم أن بعض الوعّاظ أسرفوا في حشد الحكايات الكاذبة والأساطير الخيالية والأحاديث المدسوسة، ولا سيما أن بعض علماء مصطلح الحديث يرى التسامح في رواية الحديث الضعيف والموضوع في الوعظ ترغيباً وترهيباً؛ ولكنَّ هذه العوامل يجب أن تسوّغ لهم إساءة الظن في بعض المواعظ لا كلها، ويجب أن لا تسري عدوى الشك إلى القرآن وصحاح الأحاديث؛ لأنها قطعية الدلالة والثبوب؛ وإلى لقاء في السبت القادم إن شاء الله تعالى, والله المستعان.