سلمان بن محمد العُمري
الإحصاءات الرسمية الصادرة من قِبل الجهات الحكومية المعنية في مجال تخصصها تبقى هي المعيار الرئيس لأي دراسة أو بحث، وهي المرتكز الأساس الذي يستند إليه؛ لذا فلا يُلتفت في لغة الأرقام إلى غيرها من الاجتهادات الفردية التي (تخمن) وفقًا لرؤية لا لمستند. ومن الإحصاءات الرسمية الدقيقة التي نتابعها بقلق إحصاءات وزارة العدل، وما يُنظر في أجهزتها العدلية من قضايا. ولعلي أشير إلى قضية من قضاياها الدائمة، وهي قضية الطلاق في مجتمعنا.
ولغة الأرقام والإحصاءات تؤكد أن «ظاهرة الطلاق في المجتمع السعودي» تظل قضية وطنية؛ تستوجب تضافر الجهود للإسهام في الحد منها؛ لما لها من آثار خطيرة على الفرد والمجتمع، وعدم الالتفات لكل من يتهاون ويتساهل في التقليل من مخاطرها باعتبارها مشكلة أسرية فقط. وتصاب بالدهشة والاستغراب حينما ينبري أحدهم في مغالطة الواقع، وتقديم معلومات غير دقيقة للرأي العام عن تلك الظاهرة المؤلمة التي تنخر في جسد الوطن، وتفتت الكيانات المجتمعية، وتهدم البناء الأسري.
يقول -مع الأسف الشديد- أحد الأكاديميين في ورشة عمل، ونشرت إحدى الصحف مقتطفات من حديثه، ما نصه: «إن نسبة فشل الزواج بالمملكة (الطلاق) لم تتجاوز 6.5 % منذ ثلاثين عامًا، وإن ما يشاع من أرقام ليس دليلاً مؤكدًا، وإنما أرقام عشوائية، لا تقاس بالمقياس العلمي، ونتيجة حسابات خاطئة» انتهى.
ومعنى هذا الكلام أن كل ما قدمته وزارة العدل من إحصاءات عن برامجها ونشاطاتها غير صحيح، بما فيها عدد حالات الطلاق في المملكة. وسؤالي للأكاديمي الذي قدَّم هذه المعلومة الخاطئة: هل نصدِّقكم أم نصدِّق الجهة الرسمية المعنية بإصدار صكوك الطلاق، وهي وزارة العدل، التي كشفت في إحصائية حديثة أنه بلغ عدد صكوك الطلاق خلال شهر محرم الماضي 1441 هـ (5110) صكوك مقابل 12 ألف عقد نكاح، وصدرت نسبة 48 % من إجمالي صكوك الطلاق في كل من منطقتَي الرياض ومكة المكرمة، وتراوح عدد صكوك الطلاق الصادرة يوميًّا من جميع مناطق المملكة بين 217 و321 صكًّا. وبهذه الإحصائية الجديدة التي صدرت من الجهة الرسمية (وزارة العدل) هل نصدِّق غيرها؟ وللعلم، فإن النسبة أكثر وأكبر من ذلك؛ إذ إن غالب حالات الزواج توثق، أما الطلاق فقد لا توثق في أغلب الأحيان في سجلات المحاكم، خاصة في بعض المناطق.
وإذا اطلعنا على نتائج الكتاب الإحصائي السنوي لعام 2018م الذي صدر عن مصلحة الإحصاءات العامة نجد أن نتائجه بيّنت أن عدد صكوك الطلاق الصادرة عبر وزارة العدل بلغ أكثر من 58 ألف صك بنسبة 28 % من إجمالي الصكوك، وعقود الزواج في 2018 تبلغ نحو 150 ألف عقد. وتبيّن النتائج أن متوسط معدلات الطلاق بات يرتفع سنويًّا بنسبة 2 %، يقابلها انخفاض بالنسبة ذاتها في معدلات الزواج. وبلغت حالات الطلاق خلال السنوات الخمس الماضية أكثر من 260 ألف حالة.
والطلاق وحش مفترس، يُعتبر أبغض الحلال إلى الله -سبحانه وتعالى-، والإسلام يحذِّر منه، ويكشف خطورته، ومساوئه.. وقد شرعه المولى في ظروف معينة، لا يجوز تجاوزها وتعديها؛ لما في ذلك من خطر جسيم على بنيان الأُسر وحياة أفرادها، وخصوصًا الأبناء، ودون أن ننسى الزوج والزوجة بطبيعة الحال.
وأمام تزايد الطلاق في المجتمع وفق الإحصاءات الرسمية تُعتبر ظاهرة الطلاق مشكلة اجتماعية كبرى؛ تتطلب ضرورة تضافر الجهود الحكومية والأهلية والخيرية كافة، أفرادًا وجماعات، للإسهام في معالجة مشكلات تزايد الطلاق في المجتمع؛ لما يسببه من آثار اجتماعية وثقافية وأمنية واقتصادية. وتلك المعضلة التي لا ينبغي التقليل منها بأي حال من الأحوال تحتاج إلى المزيد من الدراسات العلمية الميدانية لمحاولة الحد من تزايدها ونموها في ظل المتغيرات الواسعة التي شهدها المجتمع كغيره من المجتمعات، وأثرت في بنيته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
إن الاعتراف بالمشكلة جزء من الحل، بل هو البداية الحقيقية لرسم خطوات العلاج. ونحن لسنا بمعزل عن الآخرين. وظاهرة الطلاق موجودة في كل المجتمعات، ولكنها لدينا مرتفعة جدًّا مقارنة بالمعدلات العالمية؛ وهو ما يؤكد على الدوام العمل على خفض تلك النِّسَب وتقليلها. ولا ينبغي التهاون والتساهل في ظاهرة «الطلاق» التي كشف عدد من الباحثين في دراساتهم عن أسبابها، وهي كثيرة ومتنوعة.
إن اهتمامي بالشأن الاجتماعي والوطني دفعني للكتابة عن قضية الطلاق في مقالات عدة، والعناية بدراستها، ومن ذلك دراسة بعنوان: «ظاهرة الطلاق في المجتمع السعودي.. دراسة تشخيصية»، خرجت بنتائج وتوصيات مهمة، وأتبعتُها بدراسة بحثية بعنوان: «قبل إعلان حالة النكد»، وهي استمرار لبعض توصيات دراسة ظاهرة الطلاق. وأحمد الله أن بعض التوصيات قد أُخذ بها من قِبل بعض الجهات الحكومية والخيرية، كصندوق النفقة، ودورات التأهيل التثقيفية للمُقبلين على الزواج، وغيرهما.
إن الطلاق أبغض الحلال إلى الله تعالى. وبالرغم من أنه حلال فإنه لا يجوز أن يُنظر إليه ببساطة، وأن يقوم به كل شخص؛ فهو وُضع لضرورات معروفة معينة، وهو وسيلة من الوسائل للوصول لأسرة متينة متماسكة قوية، تنجب ذرية صالحة، وتشكل لبنة قوية في بنيان المجتمع.. ولكن أن يصبح حالة مزاجية، وعملية سهلة للغاية، تحدث بدون تردد، وبدون أي تدخل من الأطراف المسؤولة ذات العلاقة، فهذا أمرٌ خطير.
والحل الموضوعي لظاهرة الطلاق في المجتمع السعودي والمجتمعات الإسلامية عمومًا في اتباع منهج الإسلام وهديه، ومعرفة أن الإسلام إنما أباح الطلاق في الحالات التي تستحيل فيها العشرة ومواصلة الحياة الزوجية، ويكون الطلاق أخف الضررين.
ومن خلال النتائج التي توصلتُ إليها في دراساتي عن الطلاق في المجتمع السعودي، ومن خلال الإحاطة بواقع هذا المجتمع بجوانبه المتعددة، أرى أنه الحد من الطلاق يكون من خلال جانبين: الجانب الوقائي، والجانب العلاجي. ولكل منهما تفصيل في ذلك.