الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
من أهم ما يدعو إليه القرآن الكريم هو الصلح بين الناس، ويحذر من الإفساد الذي هو ضد الإصلاح، قال تعالى: {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ}، كما تشدد عليه السنة النبوية من خلال الأحاديث الشريفة.
والصلح في الإسلام يتضمن كل أنواع النزاع، سواء بين الأفراد أو الجماعات، وفي شتى أنواع المعاملات.
ولا شك أنه حينما يكون الإصلاح في المجتمع فإنه يستقر الأمن، ويتجه الناس للعمل المثمر؛ لأن النفوس قد خلصت من الحقد والكيد للآخرين. ويرى البعض «الصلح» أنه الأعظم أجراً لأعظم مهنة، وهي عبادة نحتاج إليها في المجتمع.
«الجزيرة» التقت اثنين من المختصين في العلوم الشرعية؛ ليتحدثا عن الصلح في الإسلام، وأثره؛ باعتباره من أفضل الصدقات. وفيما يأتي نص أحاديثهما:
الصلح خير
يؤكد الدكتور هشام بن عبدالملك آل الشيخ الأستاذ بالمعهد العالي للقضاء بالرياض أن للصلح بين الخصوم أهمية بالغة؛ وذلك لما يؤدي إليه من تآلف القلوب وصفاء النفوس، والتسامح في بعض الحقوق عن رضا واختيار، بخلاف القضاء؛ فقد ينتزع به الحق من الخصم بغير رضاه؛ فيشعر المقضي عليه من ذلك بمر القضاء، وقد يتفاقم الأمر بين الخصمين، ويتولد عن ذلك الأضغان والأحقاد، وهذا أمر مشاهد لا ينكر.
لأجل ذلك ندب الله -عزَّ وجل- إلى الصلح في الخصومة في غير ما موضع من كتابه العزيز، وحث النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصلح بين الخصوم في أحاديث كثيرة، منها حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «الصلح بين المسلمين جائز، إلا صلحاً حرم حلالاً أو أحل حراماً» أخرجه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.
إن الناظر في الخصومة، سواءً كان القاضي في محكمته، أو المحكِّم الذي اتفق عليه الخصمان، أو الشرطي ورجل المرور، أو حتى المدرس في مدرسته وبين طلابه، أو غيرهم، لا ينبغي أن يدعو الخصمين إلى الصلح في حال ظهور وجه الحقِّ بالبيِّنة أو الإقرار، إلا إذا رأى لذلك سبباً قوياً، كما لو كان المتنازعان من ذوي الفضل أو الرحم، أو ظنَّ أنه لو حكم بين الخصمين لتفاقم الأمر بينهما، وأدى ذلك إلى مفسدةٍ عظيمةٍ؛ وذلك للأثر المروي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: «رُدُّوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن» أخرجه عبدالرزاق وابن أبي شيبة في مصنفيهما.
فإن طَمِعَ الناظر في الخصومة منهما المُصَالحة فيستحب في حقه عرض الصلح عليهما، فإن لم يرضيا بالصلح فلا يجوز الإلحاح عليهما به؛ لما في الإطالة من الإضرار بمن له الحق، إضافةً إلى إطالةِ مجرى القضية دون فائدةٍ، وتأخير إعطاء الحق لمستحقه، وقد يجر ذلك إلى تهمة ميل القاضي أو المحكِّم إلى أحد الخصمين. يروى عن الإمام مالك أنه قال: «ولا أرى للوالي أن يُلِحَّ على الخصمين، أو يعرض عن خصومته -أي الخصومة المقدمة أمامه- لأجل أن يصالح».
ولا يخفى أن للإلحاح في عرض الصلح على الخصوم أثرًا بيِّنًا في سير مجرى القضية؛ فإن أحد الخصوم قد يرضى بالصلح لا لمجرد إنهاء القضية صلحاً، ولكن بسبب عرض القاضي أو المحكم أو رجل الشرطة مثلاً الصلح مرةً بعد المرة، مما يفهم منه بعض الخصوم أنه إلزام بذلك، فينقاد له مكرهاً لا طائعاً. ويكثر وقوع ذلك في حق الأجانب من غير أهل البلد، أو في حق المستضعفين الذين لا يقدرون على توكيل الغير بعوض، فتنتهي القضية صلحاً من أجل ذلك.
إضافةً إلى أن هذا العمل قد يوحي بأن الناظر في القضية للحكم فيها لم تتضح له ملابساتها، فيشير إلى الصلح لإنهاء القضية، فلا يترتب على ذلك إلزامٌ لأحد الطرفين بحكم معين، وهذا ما يسعى إليه عموم القضاة والمحكمين بل حتى مراكز الشرطة هذه الأيام، وهذا الأمر وإن كان يعتبر مندوباً في الأمور المشكلة إلا أنه لا ينبغي في غير الأمور المشكلة التي تبيَّن فيها الحق وظهر. قال أبو عبيد -رحمه الله-: «إنما يسعه -أي الناظر في القضية- الصلح في الأمور المشكلة، أما إذا استنارت الحجة لأحد الخصمين، وتبيَّن له موضع الظلم، فليس له أن يحملهما على الصلح». وروي عن شريح القاضي أنه ما أصلح بين متحاكمين إلا مرةً واحدةً.
أسأل الله تعالى أن يوفق القضاة للحكم بالشرع المطهر، وأن يعينهم، ويسدد خطاهم، فقد تحملوا أمانةً عظيمة، ليست بالهينة، وهم -كما نعلم- أهل لذلك؛ فالواجب على الجميع الدعاء لهم بالتوفيق والسداد، وكفِّ ألسِنَةِ أهلِ السوءِ والفساد عنهم؛ فبصلاح القضاة يعطَى كل ذي حق حقه، وتعود الحقوق إلى نصابها.
أثر الصلح
في المجتمع
ويقول الدكتور رياض بن حمد بن عبدالله العُمري أستاذ العقيدة والمذاهب المعاصرة المساعد بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض إنه ما من مجتمع إلا ويحصل فيه شيء من الخصومة بين أفراده، ولا يسلم الناس من ذلك أبد الدهر، لكن الشرع الحنيف دلنا على وسائل للحد من هذه النزاعات، من أهمها السعي في الإصلاح بين المتخاصمين.
لقد حث تعالى المؤمنين جميعًا على المبادرة بالصلح عند الاختلاف متى أمكن ذلك، وبيّن -جل وعلا- فضله ومنزلته بقوله: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (114) سورة النساء.
ثم ذكر تعالى في القرآن الكريم أمثلة لما تقع فيه الخصومة بين الناس، فذكر الزوجين المتخاصمين وحثهما على الصلح متى أمكن فقال: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} (35) سورة النساء. وأمر المؤمنين جميعاً بالسعي للصلح بين المتقاتلين من المؤمنين فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}. ولا شك أن منزلة الصلح وفضله لتماسك المجتمع وقوته أمر ظاهر، حث عليه الشرع، ودل عليه العقل، لكن من الأهمية بمكان أن يفعَّل في المجتمع مبدأ الصلح والإصلاح بين الناس من خلال القنوات الرسمية، وأن لا تقتصر الجهود في ذلك على الجانب الفردي بين الناس أو في حدود الخلافات الزوجية والأسرية، بل يتعدى ذلك ليتناول أشكال المنازعات كافة في المجتمع قبل أن تصل هذه القضايا إلى أبواب القضاء؛ فإن لذلك -بإذن الله- دورًا ظاهرًا في تقليص المنازعات، وحل جزء منها بشكل ودي، يحفظ للعلاقات صلتها، وخصوصاً بين الأقربين، ويحد من كثرة القضايا المرفوعة إلى القضاء من جهة أخرى. ومع وجود جهود في هذا السياق، تذكر فتشكر لدى وزارتَي العدل، وكذلك وزارة العمل والتنمية الاجتماعية من خلال لجان الإصلاح والاستشارات الأسرية، فإن هذه الجهود تحتاج إلى دعم مادي ومعنوي وإعلامي، يُبرز دورها وجوانب عملها، ويوعي الناس بأهميتها وكيفية التواصل معها؛ ليكون ذلك أدعى بتحقيق أهدافها المتمثلة في تقوية أواصر الصلة بين أفراد المجتمع، وحمايته من التفرق والتنازع والاختلاف.