هدى مستور
«القيم» بين الهوية الشخصية والهوية الحقيقية
القيم في أصلها فكرة لازمت صاحبها فترة فأضحت قناعة ومعتقدا؛ ولاقت في داخله قبولا واختيارا، ترافقها مشاعر جارفة وعاطفة فياضة، وهي من تحدد إدراكنا، ورؤيتنا للعالم. وتنعكس على ممارساتنا السلوكية.
ولأن الفكرة -والتي هي أصل القيمة- لها قوة ممغنطة، متحكمة، فقد حان الوقت لتمييز معالم قيمنا الشخصية والحقيقية.
منذ أن وجد الإنسان ارتبط وجوده بقيمه؛ فلا يمكن التعريف بالإنسان بمنأى عن قيمه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (30 سورة البقرة 30)، وشرفه ارتبط بقيمة العلم والمعرفة: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا} (31 سورة البقرة 31).
يتميز الأطفال في مراحل طفولتهم المبكرة، بالبراءة والخفة والمرح، والصدق والتسامح والوضوح والحب والرحمة، ومجموع هذه في الحقيقة قيم فطرية حقيقية، ولكننا نجدهم بحال تختلف عن حال الكبار المثقلين بأحمال عدة من الضوابط والقواعد والأنظمة، وهم يرجعون لها للتقييم والتصنيف والمفاضلة؛ مجموعها يسمى بـ»القيم».
قد جرت عادات المجتمعات على أن يُعرف الإنسان، باسمه، وباسم عائلته (أو قبيلته) وفي كتب السير والتراجم يضاف لذلك بما اشتهر به، من فضائل وقيم، ونظراً لغلبة تأثير الحياة العصرية ذات الطابع الإنتاجي المادي فقد يضيف التعريف بوظيفته ومسؤولياته الاجتماعية، وبذلك يُميز ويُعرف من خلال إطاره الجسدي، المتحرك، المنتج، المتضمن: انتماءه، موقعه، وإنجازاته.
ويبدو ذلك مجسداً، على صورة مثال؛ حين يقدم أحدنا على مقابلة عمل مثلاً، يزيد عما سبق بالإفصاح عن هويته من خلال عدد من القيم الشخصية المحدودة، التي تصب في مصلحة وظيفته: كالانضباط والشغف والجدية وتحمل المسؤولية والتطوير الذاتي، الطموح، روح التنافس، القدرة على الإقناع، الذكاء الاجتماعي، التعاون مع فريق العمل، إذاً هي قيم تختصر الإنسان ببعده البراجماتي فقط: الشخصية، العمليات الإدراكية، الميول الوظيفية، وهي قيم لا تتجاوز مقاييس البعد الشخصي..
إن الدلالة اللغوية لمفردة «القيم» تشي بعنصر القدْر، والاعتدال، والثبات، والدوام، وهذه كلها معاني نجدها متصلة بالعمق الإنساني والتجربة الوجودية له في الحياة. وعلى كل حال سواء عبرنا عنها بالقيمة، أو الرسالة، الرؤية، المبدأ، المفهوم، النية، الهدف،،، فكلها مترادفات مع اختلاف العمق والكثافة.
إلا أنه على افتراض كفاءة الشخص في اكتشاف قيمه المرتبطة بهويته الشخصية، إلا أن مستوى عمق الارتباط واتساق التفاعل بين الإنسان وقيمه الشخصية، يجعلنا نشك في أن ذلك مجرد مجاراة وادعاء بالنسبة للإنسان، فعلى الرغم من كثرة الادعاءات حول التحلي بالقيم، إلا أن نصيب هذه القيم، من الحياة والوجود نسبي ويتسم بالضحالة والسطحية، وتأثيرها يراوح بين الظهور والاختفاء ومرتهن بحسب المنفعة الشخصية، وممارستها يجعل لها طبيعة ثنائية، جدلية، بين الحق والباطل والخير والشر،. كحال «قيم السوق» فالمسوق لسلعة ما -كمشاهير السوشيال ميديا- من أجل قيمة عليا في حسه وهي «تحقيق الثراء «يسوق لسلعة، (سواء لمنتج غذائي بدعوى خلوه من السكر أو الدهون وغيره) ولكن لا ينبغي أن ينصدم المُغَرر به، بقدر التدليس وحجم الصفاقة التي مُني بها، بعد إتمام الصفقة!
إذاً، هي قيم لا تعدو أن تكون ادعاءات مثالية تجريدية؛ تفقد عنصر الاتساق والثبات إزاء إغراء المال، وكذلك إزاء امتحانات الحياة المتقلبة وكيفما يتفق مع الحالة المناخية والمزاجية السائدة؛ هناك قيمة كالنزاهة أو الانضباط الشخصي مثلاً، إن اكتشف صاحبها فوات علوات وذهاب ترقيات إلى من هم أقل منه كفاءة وأكثر تسيباً، فإن احتمالية احتفاظه بقيمته تبدو بعيدة كرد فعل لصدمته تلك ! وكأن قيمة النزاهة أو الانضباط مرتبطة فقط بالسلم الوظيفي.
هي قيم لا تتصل بالعمق، ولا تلامس الروح، ولا تثري حياة صاحبها، وكيف تثري حياته وهي في الأصل مستعارة من الخارج.
وهو في حال بلوغ أهدافه التي تجسد قيمه، لا يحس بنشوة الوصول ونعيم السكينة ولذة الراحة، فيستأنف السعي من جديد، يقف وراء ذلك أسباب منها ما يعود إلى أنه في الحقيقة لم يكن يسعى للهدف بعينه، بقدر ما كان يسعى لما يرافق الهدف من مصالح براقة؛ فعلى سبيل المثال: يسعى أحدهم للتمتع بالجسد الصحي الرياضي من خلال قيمة «الصحة الجسدية»، أو الحصول على إحدى الشهادات العلمية، إلا أنه حين يحقق هدفه، قد ينتابه شعور دفين بإحباط وخيبة! سره يكمن حرمانه من المرافقات وهي نيل الإعجاب ولفت الانتباه والظفر بالقبول الاجتماعي. أو ربما ليكتشف أنها كانت مجرد قيم مموهة لتغطية فراغه الداخلي، وحين انتهى عما كان يشغله وأحس بالفراغ، عاد إلى فراغه من جديد.
أما في حال عجزه عن تحقيق قيمته، كالحصول على ترقية أو علاوة أو شهادة علمية، فهو فريسة للشقاء! وذلك لأنه لا يفصل بين قيمة نفسه عن قيمه؛ فهما شيئاً واحداً، فهي خسارة مركبة من قيمته الشخصية، أضف إليها خسارة المأمول، ومعها الحياة بأسرها أيضاً، فالقيمة هنا إما حياة أو موت.
ولا ينكر أحد أن عدداً كبيراً من القيم الشخصية، على سبيل المثال: كتجميع الثروات بقصد الوصول إلى الرفاهية والقوة، أو حتى العناية بممارسة الرياضة والصحة الغذائية بقصد تحقيق قيمة الحياة الصحية، أو الاستمتاع بالمغامرات وغيرها قد يشعر معها بالرضا والبهجة والبحبوحة والقوة وتحقيق الانتشاء والوصول إلى الرغبة ولكنها لا ترقى للمستوى الذي يمكن أن يعثر صاحبها من خلالها على رسالته ومعناه الخاص به من وجوده في الحياة.
وفوق ذلك حال التعرض لصدمات، لا يجد فيها صاحبها ما يدعمه، ويواسيه ويشفي عميق جروحه، لأنها قيم تجعله يعيش منفصلاً عن كامل ذاته الحقيقية. أو متصلاً بجزء منها وهي على كل حال لا تزيد عن تسطيح السطح من شخصية صاحبها.
صاحب هذه القيم ليس لديه إيمان داخلي بهذه القيم، وإن زعم خلاف ذلك، يحمل في رأسه مئات المثل والقيم، قانعاً بالتشدق بها بطرف لسانه وسن قلمه في مجالسه ومواقعه في عالمه الافتراضي، لكسب رضا وقبول المسؤولين، وولاء المخدوعين به وللتسويق لمنتجه، ولإبهار مزيد من السذج من الأتباع؛ فهي قيم ذات مسار أفقي وطبيعة أرضية، تفتقد الأصالة ولا تمتد بجذورها بثبات في أعماق روحه ولا ترتفع بفروعها في طبقات السماء.
ولا نعجب من ذلك، فهي صناعة بشرية، مرجعيتها تتبع الرأي العام الزاحف، والعقلية الجمعية المتغلبة، والمنافع السياسية، أطرها متغيرة، ومعاييرها نسبية، ولذا فهي في بعض الأحيان قد تعكس فوضى أخلاقية، ومفارقات ثقافية، وتسلب حقوق فطرية؛ أين قيمة تشدق بها كثيرون لعقود وهي الخصوصية؟! أمام المد التجديدي الهادر. وقيم أخلاقية تتعلق بالفضيلة كـ»الستر» والحشمة، حين أسيء استخدامها وأصبحت مطية لمن يطالب بحرمان المرأة من تعدد الفرص التعليمية! وإقصائها عن ممارسة أدوراها النشطة في الدفع بعجلة الحياة، وإتاحة الفرصة كاملة لنصف المجتمع الذكوري، لإدارة النصف الآخر. وقيمة يتلاعب بها في عدد من المجتمعات كـ»الشرف» إذ خلف قناعها، سنحت الفرصة للعقد الذكورية المكبوتة، بالظهور على هيئة ممارسات التسلط والقهر، وسلب حق الحياة من الأنثى المستضعفة.
وقيمة مفتعلة منذ عقود، كنكران الذات والتضحية، فرضت على الأم والزوجة والمرأة؛ هي في الحقيقة قيم خاطئة؛ تتنافى مع حق الإقامة في هذا العالم بصورة عادلة وطبيعية وسوية!. وفي المقابل زحفت قيمة شرقية وافدة تدعو لنوع من التصوف قوامه التخلي! التخلي عن الرغبات بالكامل بحجة أن المعاناة الإنسانية، تقف وراءها الرغبات! أي أن تكون فارغاً من الرغبة! وهذه الفلسفة القائمة على قيمة اعتزال الحياة، لم تجد لها رواجاً إلا من خلال الكتب!. وهاك قيمة فرضت نفسها بصورة متطرفة وهي: الفردانية أو تعظيم الذات، إلى الحد الذي أفضت إلى انتفاخ وجودي، وتورم شخصي، أصاب النفس الأنانية، وما يقال في حق الفرد ينسحب على الجموع؛ فهي قيم تبنى على معادلة مضطربة لأنها قائمة على قيمة الأنا! يعبر عنه بصورة الأخذ فحسب، والأخذ وحده، وقد يعبر عنه بصورة ابتزاز جشع واستغلال حتى النخاع، لاحتياجات الآخرين: كحاجتهم للعمل والمال وقضاء الاحتياجات أو الترويح.
والقيم الشخصية فاقدة لعنصر الشمولية؛ بمعنى هي لا توجه عناصر الإنسان كله، نحو وجهة واحدة ثابتة ومحددة، ففي حين تسيطر على عقله، وتوجه تفكيره، كقيمة «إدارة الوقت» إلا أن صاحبها يعيش تحت ضغط الإنجاز للمستقبل فاقداً لإحساسه اللحظي، ولطاقته الحرة !لذا نقل لمن صدق وطبق قيمة «إدارة الوقت وضبطه» ابدأ بتضبيط داخلك. أو حتى إن كانت تعني بإطاره الجسدي كقيمة «العناية بالصحة الجسدية» إلا أننا نجد أن تأثير تلك القيمة لا يطال عقله المنهك مثلاً.
لماذا تلكم القيم لا تنجح إلى حد عميق في تغيير السلوك الإنساني؟
لمقدمات!؟ أولها أن وجودها مرتبط بالإرادة الشخصية وحدها؛ وليست الإرادة الروحية بقصد التقرب لله، فهي تخضع لمقدار تفاوت قوة النفس البشرية، المحدودة والمنفصلة.
وقد تعود في جهة نشأتها إلى دوافع نفسية كالخوف مثلاً؛ كالخوف من الفقر المرض الموت أو عقوبة وتهديد وكذلك الخوف من الرفض وعدم القبول الاجتماعي...
أو تماشياً مع المناخ السائد، أو بحسب تفاوت وقوة الاحتياج:- ولذا نلحظ تفاوت الناس في قيمهم بحسب مستوى الوسط البيئي الذي يعيشون فيه فبيئة فقيرة جداً أو تعاني من الحروب فإن القيمة الأولى لدى أفرادها هي البقاء حياً. في حين أن وسطا آخر تتوفر فيه أسباب الراحة ترتقي قيمة أفرادها للبحث عن الرفاهية كالسفر والاستمتاع والاستهلاك الشرائي.
و»القوة» كقيمة تتفاوت بحسب الدافع الكامن ورائها، وبحسب تغطية مستويات الاحتياج الهرمي للأفراد؛ نجدها كقيمة تشكل أهمية قصوى لدى وسط تجاوز زمن الراحة ومج الاستهلاك، إلا أننا في العمق نكتشف أن هذه القيم على تفاوتها جاءت وولدت بدافع الخوف أو الرغبة!
كما أن تلكم القيم تستمد صلابتها ونصاعتها من جهة خارجية ومصالح شخصية، وإن كانت القيم في المجتمعات ذات الهوية الحضارية المشتركة، قد ساهمت في بزوغ هيئات ومنظمات تطالب بحقوق الإنسان والبيئة، وكذلك شيوع المعرفة، والعناية بالبحث العلمي، وحرية التعبير والانتخاب، فضلاً عن جودة ووفرة الإنتاج، وبروز قيمة الانضباط متمثل بصورة احترام الوقت والالتزام بالمواعيد، وتقدير القوانين وتحمل المسؤولية، وعلى الصعيد الطبقي فقد خفت صوت العنصرية، ومن الناحية الجمالية فهناك العناية بالفنون التعبيرية، وانتشار الجماليات والذوقيات في العمران وكافة المرافق، وكذلك من أقوى قيم الموروث الديني لدى الشعوب المسلمة، العفة والحشمة والفضيلة وقيمة البر والإحسان والتكافل الاجتماعي.
هذا على الصعيد المجتمعي أما بالنسبة للفرد فمن إيجابياتها الملموسة أنها تدعم الفرد في تحديد رغباته، وتوجيهها، وتسهم في بناء شخصية مرنة قادرة على التأقلم، قادر على ضبط نفسه، ولو نسبياً، وهي تدفع صاحبها بحماسة لبلوغ الكمال حال تحقيق أهدافه القيمية.
.....يتبع في صفحة «إشراقات» العدد القادم