د. خيرية السقاف
قدمت صديقة لي من القاهرة تحمل زخم «مصر» الصاخبة, الهادرة, الهادئة..
تلك التي كان يسميها أستاذ التاريخ المصري «أحمد بدوي» -رحمه الله- «بلاد الشمس», وله كتاب بهذا المسمى, وحين كان في الرياض رفقة زوجه -رحمهما الله- الأستاذة الدكتورة «زينب عصمت راشد» كان يحدثنا كثيراً عن مصر شغفه الذي لم يهدأ في صدره, لا ينازعها فيه حبه للشعر, إلا حين يكون قصائد فيها, هذه الصديقة غابت طويلاً عن الرياض, ثم تفاجأت بصوتها تحدثني من مطار الرياض, جاءت للعلاج, وهي تخبرني بهذا اختلط في داخلي شعوران؛ ألم المرض الذي نزل بجسدها, والاطمئنان إلى تقدّم الطب في الرياض، حيث لم تعد عاصمة واحدة, بل عواصم عديدة تختلف المقاصد إليها باختلاف أدوارها, وعديد مهامها وأدوارها..
كانت د. «زينب عصمت راشد» تؤسس لأول جامعة نسائية في بلادنا وهي «مركز الدراسات الجامعية للبنات في جامعة الملك سعود», بخبراتها الطويلة, والمشهود لها، إذ هي -رحمها الله- من أسس فرع جامعة الأزهر إبان قوتها, ونهضتها, ومرجعيتها في مصر للبنات, وقد أحبت هي, وزوجها الرياض, ووجدا فيها الثلل الواثبة للعلم, وللقيادة الأكاديمية, وللبحث الشغوف, وهن في مقتبل العمر لم تعتركهنَّ بعدُ خبرة العمل, تدريساً, ولا إدارة, فأخذت بطموحاتهن إلى مناف الحلم بشخصيتها الهادئة, ومعارفها الشاسعة, وقدراتها المكينة..
هذه الصديقة في المطار كانت تنتظرني حيث لم تعد تعرف الطريق إلى المصحة الكبيرة, أدهشتني حين سألتني بعد أن أقبلنا من المطار إلى مسارات الاتجاهات الطويلة: كيف تغيّرت الرياض في بحر أعوام قليلة, وقليلة جداً لتغدو أيقونة المدن الفارهة؟..
وأنا بجوارها في العربة, شئت أن أنسيها غاية حضورها, فذهبت بها في فسحة طويلة استغرقت أكثر من ساعتين ونصف, قبل أن نصل إلى وجهتها, شاهدت الطرقات الكبيرة, والمنعطفات الصغيرة, ومشروع القطار الذي تمددت أذرعه في شرايين المدينة فأخفت الكثير من معالمها, ورأت كيف زيّنت العاصمة بناطحات السحب, ومن حسن الحظ أن يواكب هذا الجمال المدهش في نهضة الرياض ذلك الحيز الواسع بامتداد طريقين رئيسيين في العاصمة زخم الملاعب المشعة, ودوائر النافورة الملونة, وحركة السير المتاخمة, وصهيل الفرح الطفولي, وابتهاجات النظام, وحركة الإشارات, وتعاليم الأنظمة, وهذا الكل المتقد في تفاصيل الرياض..
ونحن في العربة التفتت إلي تهمس: لا ينقصنا الآن غير كوب من الشاي الذي كنا نحتسيه قبل دخولنا قاعات التدريس في الجامعة, لكنني لم أجبها بالكلام, بل بكوب منه كنت قد جئت بحافظته, التي بجواري.. شهقتها ذكرتني بوثوبنا فرحاً حين نحقق شيئاً من النجاح في أدوارنا, فننال تحية المرأة العظيمة د. زينب, بابتسامتها التي لا تغادر الذاكرة..
فمثل هذا الكوب كان يجمعنا بها حين كانت خير جليس كلما فرغنا من أداء محاضراتنا, جئنا إليها فتهبنا الكثير من حكمتها, وعلمها, وذكرياتها..
لم تكن رئيسة قدر ما كانت محضن أم, ومكمن خبرة سخية لم تغلق أبوابها..
صديقتي وهي ترشف كوب الشاي قالت: نعم جئت من مصر البهية, لأجد الرياض أكثر بهاءً وجمالاً, وحداثة..
مضينا في جولتنا, ولما بعد قطعنا من مساحة الجمال إلا قليلا..