د.محمد بن عبدالرحمن البشر
بحث الإنسان منذ آلاف السنين عن ما يلوذ به، إذا ضاقت به الدنيا، بآلامها وتقلباتها، وما تلد من كل عجيبة، كما يقول المتنبي، والتفت إلى يمينه ويساره، وما فوق رأسه، وما تحت قدميه، فعبد الشمس تارة، والقمر تارة أخرى، وعبد العجل، والبقر، والشجر والحجر، وصاحب ذلك الكثير من الأساطير والخرافات والقصص الغريبة العجيبة.
بعث الله الرسل والأنبياء إلى الإنسان برسالة التوحيد لله عزَّ وجلَّ، فمنهم من صدق ومنهم من كذب، ونسجت القصص والأقاويل، وأدخل فيها ما ليس منها، فحدث التحريف في بعضها، وهناك من علماء الآثار من ينكر حدوث بعض القصص التي حدثت للأنبياء والرسل زاعماً أن الآثار لم تخلد لأحداث جسام، بينما تركت أثراً لأحداث أقل منها شأناً، أما أصحاب التوثيق والنقل فيرون ذلك حقيقة لا محالة، ويظل المؤمن بعيداً عن هذا وذلك موقناً يقيناً لا لبس فيه أن ما ورد في الكتب السماوية، عدا ما أصابه شيء من التحريف، واقع حقاً لا ريب فيه، وأن الله القادر على خلق هذا الكون بما فيه الإنسان الذي لا يساوي ذرة من عظمة خلق الله، قادر على صنع المعجزات.
وبعيداً عن الحديث عن الكتب السماوية، فإن الإنسان بطبعة يألف الاستماع أو قراءة ما هو غريب، والمبالغة في أحداث ربما قد وقعت، لكن يُضاف إليها من المبالغات ما يجعلها تبدو وكأنها غير حقيقة، وهناك مبالغات لا تمت للواقع بصلة، لكنها مقبولة وممتعة عند سماعها مع علم الجميع ويقينهم بعدم صحتها، كما يحمله الكثير من الشعر عبر التاريخ حتى يومنا هذا.
وهذا على سبيل المثال عمرو بن كلثوم، بعد قتله الملك عمرو بن هند، يبالغ في قصيدته المشهورة المعلَّقة على أستار الكعبة:
مَلأْنَا البَرَّ حَتَّى ضَاقَ عَنَّا
وَظَهرَ البَحْرِ نَمْلَؤُهُ سَفِيْنَا
إِذَا بَلَغَ الفِطَامَ لَنَا صَبِيٌّ
تَخِرُّ لَهُ الجَبَابِرُ سَاجِديْنَا
كتب التراث عبر التاريخ مليئة بأساطير أو مبالغات، تناقلها الرواة والكتَّاب دون تمحيص، فقد نقل صاحب كتاب تاريخ سني ملوك الأرض، عن محمد بن موسى الخوارزمي، أنه في سنة أربعة وتسعين للهجرة، بدأت الزلازل في الدنيا، واستمرت أربعين يوماً، عادت في سنة ثمانية وتسعين، واستمرت ستة أشهر، وهذا لا يتسق مع المنطق، فالزلازل لا تدوم سوى ثوان محدودة، ثم يلحقها توابع بدرجات أقل، وينتهي الأمر، وربما تعود مرات في فترات متباعدة، لكنها لا تدوم منذ وجود الإنسان العاقل الذي يسير على رجليه، وقبله بآلاف السنين، وربما ملايين السنين. ونقل أبي الحسن الأصبهاني عن ابن جرير الطبري أنه في سنة مائتين وعشرين، ظهر في بعض مدن العراق، عدد هائل من الفئران، ليس له حصر، وقد أتى على غلات ذلك العام، ثم ماتت وفنت، وهذا أمر مقبول إلى حد ما، ونقل عن ابن جرير أيضاً، أن أحد مدن العراق قد أصابها رجفة يعني زلزال، وخسف، أتت على المدينة كلها، ثم أصابهم نار انحطت من الهوى فأحرقت خلقاً كثيراً، والحقيقة أن هذه رواية يصعب تصديقها لاسيما ما يخص الخسف والنار، ويذكر أنه في سنة ستة وسبعين ومائتين، شج ماء أحد الأنهار، فانكشف عن سبعة قبور يفوح منهم رائحة المسك، وأن أكفانهم وأجسادهم لم يصبها شيء، ويذكر أنه في إحدى السنوات هبت ريح شديدة صفراء، ثم تحولت إلى سوداء وبقيت يوماً وليلة، أعقبتها أمطار غزيرة، وقع معها حجارة بيض وسود، يفوح منها رائحة العطر، وأقول هذه الرواية لا يمكن قبولها.
وأورد واقعة مؤلمة تخللها قصة جميلة، فقد وقعت ببغداد مجاعة في عام ثلاثة وثلاثين وثلاثمائة وتفرَّق الرجال وماتوا، وبقيت النساء، فكانت الأبكار ذوات الخدور، يخرجن عشرين عشرين معتمدات على بعضهم، ويصحن: الجوع الجوع، فإذا سقطت واحدة وماتت، سقطن الباقيات، ويبقين حتى يتوفاهن الله، وكان في بغداد رجل موسر يُقال له يحيى بن زكريا، فجمع في داره ألف بكر، وأطعمهن فترة الجوع، ثم زوجهن ودفع مهورهن وتكاليف زواجهن.
ويقول في رواية غريبة يصعب تصديقها إنه في عام أربعة وثلاثين وثلاثمائة، كثر القمل في إحدى المناطق، ويئس الناس من الحصول على غلاّتهم، وإضافة إلى الأمراض المصاحبة لذلك، وهموا بالجلاء، لكن نوع صغير من الصقور في حجم العصفور، قدم إلى المنطقة، وكان لهم قائد وقع على أحد الأشجار، ثم يصفر صفيراً تتجمّع معه الطيور، ثم يقودها أفواجاً إلى جميع المزارع، فيأخذ في لقط القمل حتى تمتلئ منها حواصله، ثم تعدل إلى الماء، فتتبرد، ثم تقذف بما في حواصلها، ثم تعود وتلقط، وهكذا حتى يجن الليل، ويحل المساء.
هذه نقطة من بحر تمتلئ به الكثير من كتب التراث عبر التاريخ، ويصعب على الناقد المنصف قبولها، مع اليقين أن خوارق العادات قد تحدث كلها مسببة، مثل التأثر البيئي، أو انتشار الأوبئة، أو غيرها من الظواهر البشرية والكونية، ولقد وقعت في عصرنا الحاضر بعض من هذه الظواهر، كما حدث لطالبة إنجليزية سقط رأسها على المقعد، فأخذت تكتب من اليمين إلى اليسار، وبعد حين عادة إلى الكتابة كما كانت من اليسار إلى اليمين، لكن هناك سبب علمي لتفسيرها.