د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** استودع الشاعرُ الفلسطيني «معين بسيسو 1928-1984م» رسالتَه داخل زجاجة وألقاها في البحر:
(خبأتُ في آنية الزهور دمعتي
خبأتُها في الماء
فجاء بالشباك والسنارة
مَن فَهم الإشارة..)
** ولعل حظَّها في بلوغ هدفها أقوى من تلك التي كتبتها الروائية التشيلية «إيزابيل الليندي 1942-» إلى جدِّها الذي تيقنت وفاته ولم تقف عن الكتابة إليه فتكونت منها «خمس مئة صفحة» مثَّلت روايتَها الأولى: «بيت الأرواح».
** أيقن «بسيسو» أن الموج يعرف مساره، والزجاجة تهتدي إلى شاطئها، والقصيدة تعي قارئَها:
«سوف تظلُّ طافية
يدفعُها التيارْ
وسوف يأتي فوق لوحِه بحّارْ
ينتشل الزجاجة
يفضُّ ختمَها في الضفة الأخرى من القناة
ويقرأ الرسالة..»
** وصلت رسالة «بسيسو» حول زعيمه الراحل فصارت نصًا يُتلى، وأصبحت رسائل «أللندي» إلى جدها الذي لم تستطع رؤيتَه فتحًا في عالمها الروائي، وتداولت الوسائط الرقمية قريبًا رسائل فتاةٍ إلى والدها المتوفَى منذ أربعة أعوام فأضحت محطة طمأنة، ولم يُستبدل الزعيمُ والجدُّ والأبُ فخلدوا، ولم تُمسّ الكلمات أو تَتِهْ المشاعر فانتشرت، وأفاق صاحبكم من غفوته؛ فاكتشف أنه ما زال يبعث أشياءه إلى هاتف والده- رحمه الله- دون أن يمنعه أنها لن تجدَه، وأيقن أنه لم يغفُ ولم يغفلْ، ولو بقي رقمُه فلن يكفَّ عن مخاطبته؛ فالأمواتُ لا يُغادرون وإن لم نرَهم، ولكن الأحياء يغادرون وقد يغدرون.
** الرسالة رمزٌ يفتحُ دواخلنا ويكشف خوارجَنا ويعبرُ عما نعلن وما نخفي، وما نرى وما لا نرى، وما نقول وما لا نود أن نقول، وما نواجه به سوانا وما نستتر عنه، وربما نحتفظُ ببعضه ونهمل معظمه ليبقى شاهد سيرة ومسيرة ومشاعر ومظاهر ووصلٍ وذكر.
** احتفى الأدب العربي بالرسائل فدققها ووثقها وصنفها: رسميةً وإخوانية ووعظيةً وأدبية، ومما وعيناه منها: رسائل «الجاحظ والصاحب بن عباد وأبي العلاء المعري وابن شهيد وابن زيدون»، وكذا رسائل «جبران إلى مي زيادة» و»الرافعي» في « رسائل الأحزان» و»غادة السمان» في رسائل «غسان كنفاني وأنسي الحاج» إليها، ولقيت الرسائل التراثية احتفاءً جيدًا من الأقدمين والمعاصرين كما صنع «الحلبي» في «حسن التوسل» و»القلقشندي» في «صبح الأعشى» و»شارل بيلا وشوقي ضيف وبنت الشاطئ» وغيرُهم.
** اليوم أضحت حياتُنا رسائل لا تصل ولا تتأصل؛ فإنما هي تدويرٌ وتحويرٌ تفتقد اللغة الجميلة والبوح الخاص والمعانيَ بدلالاتها كما المباني بأدواتها، وتوشك أن تكون عبئًا على العين وهدرًا في الوقت وتلويثًا للذائقة لنرى رسائل الراحلين أبقى وأنقى وأرقى.
** ولَّى زمنُ الرسائل، أو كاد، وحل زمنُ الوسائل؛ فالرسالة إيقاع والوسيلة إمتاع، وإذ ينتفي الجمال فلا أقلَّ من الخيال، ومن يدري؛ فربما وجدنا بعضَ تفاصيلنا الصغيرة في مكاتباتٍ أهملناها فآنَست ما نتوجد وأنْست ما نجد.
** الحياة رسائلُ معجلةٌ ومؤجلة.