د.فوزية أبو خالد
على الرغم من أن الاختطافات التي تعرَّض لها الربيع العربي في انطلاقه ما بين الخريف والشتاء نهاية العام 2010م من تونس وانتقال عدواه للمجتمع بأطيافه خاصة المسحوقة والشابة إلى عدد من الدول العربية المتألمة لتواريخ طويلة ما بعد جلاء الاستعمار الأجنبي من أنظمة ظالمة ونهّابة ومهيمنة على الداخل وهشة في علاقاتها مع دول الهيمنة الأجنبية، قد دأبت منذ لحظات اندلاعاته الأولى 2011 إلى اليوم على محاولة تحويله إلى حالة من الحرب أو الاحتراب في المناطق التي تجرأت عليه، كما استماتت في خلق حالة شك عامة تجاهه، فإن ذلك الربيع رمزياً صار طائر رعد الأسطورة الفنيقية فلا يلبث أن يخرج من الرماد وينتفض كلما ادلهمت الظلمة والظلم كما حدث هذا الخريف في ثورة العراق ولبنان وقبلهما من نفس هذا العام في السودان والجزائر.
والواقع أن حالة الحروب والاحتراب والذبح للأطفال والرجال والنساء، وحالة السجن والتشريد والإعاقات والتهجير وإشاعة رعب بواح منظّم وترهيب يومي التي خلقتها بعض الأنظمة مثل النظام السوري وسواه كردة فعل على الربيع العربي وإن نجحت نجاحاً هتلرياً في تجريف مدن وقرى عامرة بأكملها وتحويلها إلى خراب وفي تشتيت وقتل شعوب عريضة، فإنها فشلت فشلاً ذريعاً في قتل فكرة ومعنى ووهج فكرة الربيع العربي.
وهنا سأتناول بعض القواسم المشتركة أو بعض مشتركات الحلم والجرح والملح التي جمعت واستطاعت أن تجمع عقول وقلوب مروحة واسعة من الشباب ومتوسطي العمر والكبار والصغار والأطفال نساءً ورجالاً وبنين وبنات وصبايا وصبابات على جذوة الربيع العربي خاصة في تلك البلاد المعنية به الآن وعلى إبقائه كفكرة عدلية حرة ونبيلة حيَّة في الضمائر كخط دفاع سلمي عن الحقوق لمواجهة التعدي عليها والتفريط بها والاستخفاف بالمصائر البشرية المترتبة على ضياع تلك الحقوق.
من تلك المشتركات ما يلي:
أولاً: مشترك «بلوغ السيل الزبى»؛ بمعنى أن ما يحدث اليوم في العراق ولبنان وقبلهما في الجزائر والسودان وما قبلهما البعيد جاء نتيجة تاريخ طويل من الصبر، إن لم يكن المسايرة أيضاً على تراكمات عميقة من خلل علاقة المجتمع بقواه المختلفة مع الأنظمة المنتفض ضدها أو على الأقل ضد سياساتها المخلّة بحقوق المجتمع. تراكمات من الفساد المالي وسرقة المال العام وتهريبه لبنوك الخارج، ومن الأمثلة مؤخراً لبنان والعراق وقوائم فضائحها بالأسماء، تراكمات من المحسوبيات الفئوية والشللية ناهيك عن المناطقية والعشائرية والمذهبية والعرقية والهوى السياسي على حساب المواطن ومفهوم المواطنة و(ما سلطة حزب الله المطلقة في لبنان إلا مثال وقح على ذلك)، تراكمات من قمع حرية التعبير والصمت معاً, تجريم الكلمة المغايرة للرأي السائدة والموقف النقدي وليس بالضرورة المعارض، و(ما اعتقالات الجزائر وزج كُتَّاب الرأي في المعتقلات إلا مثال صريح على ذلك، وتراكمات من خطف استقلالية القضاء والسلطة التشريعية وخلطها بالسلطات التنفيذية لتلك الحكومات، بل تحويل مؤسسات يُفترض فيها الحياد كمؤسسة القضاء والبرلمان إلى مؤسسات حليفة ومتواطئة مع مشيئة تلك الأنظمة، وما البرلمان العراقي إلا مثال صارخ على ذلك.
ثانياً: مشترك «القشة التي قصمت ظهر البعير» بين تلك الانتفاضات من أول شرارة من شرارات الربيع العربي في تونس حتى آخرها أي إلى هذه اللحظة في لبنان. فبينما انطلقت انتفاضة ما سُمي بالربيع العربي عام 2010 من قشة العربة التي صادرتها البلدية في تونس لبائع الخضار الشاب بوالعزيزي الذي انتهي بحرق نفسه على الملأ بعد أن كان يحاول درء سوءة النظام في تفشي بطالته وبطالة الجامعين من الشباب التونسي بمحاولة العمل بائعاً على الرصيف, فإن «ثورة تشرين بلبنان» كما سمى أهالي لبنان انتفاضتهم الربيعية في شرخ الخريف قد انفجرت بقشة اسمها وضع ضريبة مالية على استخدام «الواتساب»، طبعاً بعد ما ذكرنا من التراكمات العميقة في نظام المحاصصة الطائفية المستغلة والقمعية في لبنان وأمام زعامات الطوائف المعيقة والمعيبة والتي يمثِّل حزب الله ذروة قبحها وتكالبها ضد الشعب اللبناني كله بعد أن انكشف استخدامه السياسي الميكافلي البشع لقضية مقاومة العدو الإسرائيلي.. واللافت في تلك القشة لبنانياً أنها عرَّت كل قطيع البُعران.. ومن تلك القشة اشتق ذلك الموقف الجذري القائل باللهجة اللبنانية الرشيقة: «كلن يعني كلن ما حدا مستثنى منن»؛ بمعنى كل الزعامات الطائفية من فرعون نصر الله إلى هامان جعجع وجنبلاط وما بينهما من أباطرة الطوائف وصولاً لرئيس جمهورية لبنان عون الجنرال السابق لواحدة من أعتى الحروب الموجعة على أرض لبنان.
ثالثاً: مشترك السلمية والإبداع والتقنية في تلك الانتفاضات الاحتجاجية على الأوضاع المائلة الآيلة بالبلد كالبيوت المتهالكة للسقوط إن لم يجر تعديل موازين العدل في الأوطان (وهو مشترك ثالث ولكنه ليس أخيراً على أية حال). ففي مطلع انتفاضة تونس سُميت تلك الانتفاضة بـ (ثورة الياسمين) وهو مسمى إبداعي أدبي يحمل دلالات حيوية على الروح السلمية للحراك أكثر من أي دلالات سياسية ناهيك عن الصدامية أو العنف لا سمح الله. وفي انتفاضة السودان كانت (الحمائم البيضاء) بغنائية شجيّة من الكنداكة ذات الثوب الأبيض وغصن الزيتون وحنان حرف النون.
وقد أبدع الأهالي في لبنان على كل المستويات السلمية في الشارع اللبناني من اليسار صور وصيدا والنبطية والغازية إلى بنات طرابلس وزغرتا وعكار والمتن وجزين والأرز وعالية وصوفر والفكهاني وشباب بيروت التي لم تعد بيروت الشرقية والغربية، بل بيروت اللبنانية. ومن تلك المسميات السلمية حد الرومانسية كان اسم «السلسلة البشرية» وكانت المظاهرات عبارة عن دبكة أعراس لبنانية أملاً في منشود الكرامة والأمن والرزق الحلال والعدل والحرية.
وليس لبنت مثلي من جيل فتح عيونه على نشيد بلاد العرب أوطاني إلا الدعاء أن لا تستطيع أي قوة على الأرض فرض قمع أو شن حرب على هذه الروح الوطنية السلمية.