م. بدر بن ناصر الحمدان
كان الموعد في مقهى تراثي صغير يقبع في وسط المدينة القديمة في إحدى ضواحي العاصمة، النهار يستعد للرحيل، نحن على مشارف الغروب القادم ليمنح للمساء مكاناً على أكتاف الغسق، استعدادً لطقوس منتصف الليل.
في الطريق مع سيارة الأجرة كان المشهد أقرب إلى سيمفونية رائعة، تعزف الجمال أينما شاح البصر، كلما اقتربنا من المكان الذي نتجه إليه وسط المدينة، قل عدد السيارات، وضاقت الشوارع، وزاد عدد الناس.
كانت لغة الصمت حاضرة بيني وبين السائق الذي لم يعد يكترث بمن يرافقه لأعداد البشر الكبيرة التي يقلها طوال الوقت لسنوات مضت، رغم ذلك كنت أشعر بأننا نتحدث أنا وهو لغة واحدة وهي لغة إدراك المكان، كنت أشاهد ذلك في ملامح عينيه اللتين تحدقان بعيداً، متجاهلاً كل التفاصيل المحيطة بنا، والتي حتماً بات يحفظها عن ظهر قلب.
وصلنا إلى وسط المدينة، وكان يتوجب علي أن أواصل المسير إلى المقهى الصغير مشياً على الأقدام حيث تحظر القوانين دخول المركبات للحرم العمراني المحيط بما ينسجم مع وظيفته المسائية كمكان يمارس فيه الناس حياتهم نهاية كل يوم.
رائحة القهوة والمطر تسيطر على أبجديات ذلك المساء بكل ما يحمله من عبق، وسرمدية طاغية، وقع حوافر الخيول قادرة على استعادة الذكريات الغارقة في أعماق مرتادي ذلك المكان الذي يتوافد عليه كل أولئك القادمون من الأحياء والشوارع والأزقة المجاورة، تشعر بأن هذا المكان في انتظارهم، وهم يحاولون اللحاق على ما تبقى لهم منه ليحتضن كل مشاعرهم وهمومهم، بعد ساعات قضوها في أماكن عملهم ليهدأ الركض اللاهث الذي بداخل أرواحهم.
توقفت أمام ذلك المقهى الصغير القابع في زاوية مظلمة، بالكاد تعرفت عليه وتعرف علي، تقرأ لوحته الخشبية الصغيرة على انعكاس ذلك الفانوس المتشبث بكل جدران التاريخ الذي تحمله، لم يكن المقهى سوى غرفة صغيرة لتحضير القهوة الساخنة حيث تنتشر طاولات الجلوس على الرصيف المتاخم له، أخذت مكاني على طاولة خشبية في الطرف المطل على ساحة قديمة والتي يبدو أنها كانت اسطبلا للخيول، وتحولت اليوم الى ملتقى لمتذوقي الحياة.
بدا المكان في الوهلة الأولى وكأنه ملاذ لعاشقي الفن والأدب والموسيقى وحكايات الجمال، بدأت أتعرف عليه وأعيش تفاصيله عن قرب، خيل لي بأني في جزيرة بعيدة لا يسكنها سوى ذائقي الليل وأصدقاء القمر، أجواء مختلفة توحي بأني في أروقة فصل خامس لم يعشه أحد سواي.
بالجوار، أشخاص محليون وآخرون غرباء، وعلى الرصيف بائع لأشجار الليل لأناس قد يستظلون بها يوماً من ضوء القمر، أماكن أخرى تعج بالناس، رغم اختلاف مقاصدهم وتنوعها إلا إنهم اتفقوا على المجيء هنا للإمساك بلحظات هاربة من حياتهم ربما فقدوها يوماً في هذا المكان وجاءوا لاستعادتها.
الطقس البارد، ولحظات الانتظار جعلتني أكثر إحساساً بجمال المكان، قطرات المطر بدأت تداعب ضوء الشمعة الصغيرة على طاولتي وكأنها تلفت انتباهي الى نادلة جميلة تقف بجانبي، وكأنها قائدة أوركسترا، تنتظر أن أمنحها موافقتي على إحضار معزوفة من فنجان القهوة السوداء وفق تقاليد وأعراف ذلك المقهى العريق، ربما كانت تعرف أن بيني وبين القهوة شيئا من ربيع العُمر، ونصف حكاية، وأوراق لم أكتبها بعد.
يقال: «من آداب الاستماع إلى أُنثى، أن تُنصت إلى عينيها أولاً». كذلك هي المدن، لها وجه آخر أكثر إشراقاً، فقط علينا أن ننصت لها لكي نفهمها.
كان موعدي مع فنجان قهوة، غادرت بعد أن تحدثنا معاً.