د.عبدالله بن موسى الطاير
ما يثقل كاهل مرحلة التحول التي نعيشها هو كثرة المقارنات مع الماضي، ومقاومة الانعتاق من الوضع المريح أو الراهن. مفاضلة الحاضر مع الماضي ليس حكراً على السعوديين، فالعقل العربي بعمومه غارق في تفاصيل الماضي، ومرتهن في حصونه الدارسة. كل منجز معاصر يُقزم أمام عظمة الماضي، وكل رأي مخالف -وإن كان سديداً- يجابه بمقامع الماضي باعتباره سقف الطموحات، وغاية الأماني.
ألفنا طريقة معينة في الحياة، واستمرأنا الدعاء الذي لا يفارق ألسنة الشاكرين «الله لا يغيِّر علينا»، ونادراً ما نستدرك أن التغيير المرفوض هو السلبي وليس الإيجابي. مثلاً.. تكيفنا مع نظام وظيفي للخدمة المدنية، فاستأنسناه وتمسكنا به. هل لأنه كان الأمثل؟ بالتأكيد لم يكن، فقد أسهم في تقليص الطبقة الوسطى، لأن معظم الموظفين على ملاَّك الدولة برواتب لا تشبع شهية الاستهلاك المتوحشة، مما أنتج مواطناً يتنقل بين أحضان الدائنين. ورغم ذلك نرفض تجريب غيره، أو حتى التململ من دائرة الألفة التي يقول قائلها: «اصبر على قردك لا يأتيك الأقرد منه». نستميت في مقاومة أية محاولات للتغيير والإصلاح في هذا النظام، ونتشكك في أي طارئ عليه، دون أن نسأل ما إذا كان أفضل منه.
الاتكاء على أن الوظيفة الحكومية أمان من الفقر لا يعني بالضرورة أنها السبيل الأنسب إلى الثراء، كما أن هذا الاعتقاد السائد جعل القطاع الخاص تلقائياً صنواً لعدم الأمان مما أفضى -في حقب مضت- إلى تراجع إقبال السعوديين عليه، وإلى تقاعس الجهات المخولة بحوكمته وتنظيمه من إصلاحه بشكل جذري. هذه المتلازمة جعلت ثروات الطفرة النفطية الأولى والثانية تجد طريقها إلى التحويلات الأجنبية بمليارات الدولارات سنوياً وعلى مدى عقود.
اليوم نعيش مرحلة مختلفة، لا تحتمل بأي حال المقارنة مع الماضي، أو العيش في جلابيب الأمس. هناك ثياب تفصّل لا علاقة لها بما اعتدنا عليه. بدلاً من أن نفرح بهذه الحلل القشيبة استفرغنا وقت الاحتفاء بها في مقايستها بالماضي. المقارنة تتطلب تماثل الظروف الحاكمة لكفتيها، وهذا غير متاح. والنتيجة هي ظلم المرحلة الحالية، والتوجس خيفة منها، لأنها جديدة علينا، ومخالفة لما اعتدنا عليه، والناس أعداء ما جهلوا.
العالم كله يتغيّر وليس نحن فقط؛ بريطانيا العظمى تغادر الاتحاد الأوربي في ولادة عسيرة وتتجه إلى أن تكون خارج القارة الأوربية. حدّة الانقسام بين نخب بريطانيا السياسية لم يخبرها التاريخ المعاصر. الديمقراطية الأمريكية تعيش محنة حقيقية ويبدو لمن يراقب الوضع من داخل أمريكا أنه أمام دولتين يحكمهما نظامان متحاربان، وليس حزبان سياسيان في دولة واحدة. أمريكا التي بثت العولمة في شرايين العالم المعاصر بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ترتد عن أيديولوجيتها وتنقلب على كل المبادئ التي آمنت بها، ولقنتها للمجتمعات البشرية، وعادت القهقرى لتركّز على مصالحها التجارية وحسب. والصين بعد 40 عاماً من الإصلاح الاقتصادي والصناعي تصل إلى القناعة بأن يحكمها رئيس مدى حياته.
أما في محيطنا فقد غربت القومية العربية، وسقطت رموزها، واندثر البعث، وسقط الإخوان المسلمون أمام اختبار الحكم، وانتخبت موريتانيا رئيساً في حياة رئيسها، وهو ما لم يكن متخيلاً، وجاءت انتخابات تونس برئيس من خارج النخبة السياسية. دول عربية كانت ملء السمع والبصر تعيش حروباً أهلية وهي معرَّضة للتقسيم مثل ليبيا وسوريا والعراق.
الظرف الذي نعيش فيه يؤذن بصفحة مختلفة في سفر التاريخ، صفحة منبتة عن سابقاتها، ولا تمت لها بصلة. حتى نسهم في كتابة هذه الصفحة لا بد أن نؤمن بأن التغيير حاصل وأنه حاد ومختلف ولكنه ليس خاطئاً. كما أن السير في ركاب التحول يتطلب نقداً موضوعياً وليس عاطفياً للماضي. لا بد أن نجرّد تفكيرنا في الماضي من وهم المثالية، وأن نخلص إسهامنا في الحاضر والمستقبل من سيطرة الأمس. ذلك لا يعني بحال من الأحول عدم الوفاء لماضينا، وإنما النظر إليه على أنه ذهب بظروفه وشروطه، وأننا أمام مرحلة ذات معطيات مختلفة. مقاومة التحول بسكب الدموع على الأطلال لن يوقف عجلته، ولن يؤخّر صناعة الغد، وعلينا أن نختار العيش في المستقبل وفق شروطه، أو أن نحبس أنفسنا في الماضي الذي لن يعود.