د.عبد الرحمن الحبيب
«ذات مرة حلم تشوانج تسو أنه صار فراشة ترفرف، خالية من أي إحساس ولا تدري أي شيء عن تشوانج تسو، فجأة صحا وقد عاد مجدداً تشوانج تسو، والآن لم يعد يعرف ما إذا كان تشوانج تسو قد رأى حلماً وصار فيه فراشة أو أن الفراشة قد حلمت أنها صارت تشوانج تسو، لكن المؤكد أن ثمة فرقاً بين الفراشة وتشوانج تسو. تلك هي الحال في تحول الأشياء». هذه النسبية للفيلسوف الصيني تشوانج تسو صاغها قبل اينشتاين بأكثر من ألفي عام، تسعى لفهم الآخر وكأنك مكانه.. وفحواها أن ثمة قناعات ترسخت لدى الناس وتحجرت وينبغي التنبيه إلى نسبية التجربة ومعايير التقييم وطرق التفكير.
في التحولات يبدأ فرانز كافكا القصة الأشهر بالقرن العشرين: «المسخ» بتحول رهيب صادم من سطرها الأول: «استيقظ جريجور سامسا ذات صباح بعد أحلام مزعجة، فوجد نفسه قد تحول في فراشِه إلى حشرة ضخمة..». جريجور بائع متجول بسيط وبائس يجوب المدن بشقاء يومي وأمنيات مستحيلة لتحسين وضعه، يحاول الآن كحشرة النهوض من فراشه بأوجاع حادة من أطرافه المفصلية، وهو يسمع الأصوات خلف الباب قلقة من تأخر نومه، ثم منزعجة منه.. وحين يحاول الرد عليهم بحشرجة غريبة وصوت غير بشري يعجز عن التواصل معهم، ينبذونه ويحتقرونه.. يختبئ عن الأعين، فهو حشرة، يصارع حالته المريرة غير قادر على النهوض.. بنهاية المطاف، ماذا يمكنه أن يفعل غير الموت؟ الانتحار هو الحل الوحيد الممكن..
جريجور شاهد على بدايات القرن العشرين التي أعقبها حربان عالميتان في عالم رأسمالي متوحش، يمثّل حالة اغتراب على مستويات عدة.. اغتراب عن العمل والمجتمع والأسرة والذات. بذور هذا الاضطراب نمت وترعرعت على مدى قرن لتظهر العولمة برأسماليتها المفرطة مؤثّرة بكل النشاطات البشرية، مع تقدم هائل بتقنية الاتصالات وانفجار المعلومات. قد يكون مجمل العولمة محفز للتطور البشري، لكنها أيضاً تثير التنافس الشرس على المعيشة والاقتتال على الموارد والمنافسة المجحفة على الوظائف، مما شكَّل اضطراباً اقتصادياً للدول واجتماعياً للجماعات ونفسياً للأفراد في عالم سريع التقلّب والمفاجآت، خارج عن تفكيرنا المألوف، والأخطر أنه خارج عن السيطرة المعتادة..
فإذا كنت تسأل هل لبقايا الدواعش وأشباههم، في مناطق مثل سوريا والعراق والصومال وأخرى منسية في أفريقيا، عقول يفكرون بها كي يدمروا حياتهم وحياة الآخرين، فعليك أن تسأل أي مقدرة لمن يعيشون في الجحيم على صنع الحياة؟ يصمدون تحت سقوف لا تؤويهم أو يهاجرون نحو بلدان ترفضهم أو يقاتلون الجميع.. خيار بين دمار وانتحار.. حالة استياء وغضب تُخرج التفكير عن الأنماط العقلية المعتادة، قد تؤدي بالأفراد والجماعات إلى الدخول في صراع مع الآخرين يتوافق مع حدة الحالة.
خذ مثلاً، شاب صومالي غامر بحياته، قبل أربع سنوات، مع المهاجرين في قوارب متهالكة من جنوب البحر المتوسط إلى شماله.. تهرَّب بين الدول بكل عذابات الحدود حتى وصل بريطانيا.. سألته المراسلة البريطانية بعدما ضبطه حرس الحدود: ماذا تريد هنا؟ قال بأنفة: مصدر رزق لأهلي، إنهم ينتظرون تحويلاتي المالية! فقالت: هل وجدتها؟ أشاح بوجهه جانباً، كفكف بريقاً من دمعه كي لا ترصدها الكاميرا فلا زال بعض كبريائه صامداً، وردَّ عليها بحزنٍ: قالوا إنهم سيطردونني، لا أدري أين أذهب، لكن وجدت بالإنترنت أنّ داعش تعطي راتباً مجزياً، سأذهب إليهم.. قالت هل تعرف أنّ داعش تنظيم إرهابي، وأنك غالباً سوف تُقتل هناك؟ أجابها متسائلاً والدمع ينهمر من عينيه: ماذا أفعل؟ وهمهم بحيرة حزينة: ربما هذا أفضل من الموت جوعاً في عالم شبعان..
فرد منسحق.. فرد تائه.. فرد منطوٍ على نفسه.. لكنه الآن يجد بالإنترنت ملاذاً.. كان الذئب الجائع يعوي في البراري منفرداً، صار يجد من يرحب مؤيّداً بعواء يشابهه لتجتمع القطعان وتصحو خلايا نائمة. كان الفرد البائس الذي يرغب في هجوم انتحاري قلّما ينفذ عمله لأنه لا يؤثّر إلا لحظياً، مثلما حدث قبيل ظهور الإنترنت في هجوم الغاز السام في ميترو طوكيو (1995) أو في ذات السنة تفجير أوكلاهوما.. صار أمثال هؤلاء نجوماً في سماء الإنترنت.. معنوياتهم ارتفعت، واكتسبوا ثقة في يأسهم كمنتحرين أبطال.. صاروا أكثر جرأة وتكراراً في عالم اليوم. الآن، لكل ساقطٍ لاقط مهما كان منفراً..
منذ بداية صعود داعش واحتلاله الموصل لم يكن التوقع صعباً بأن مصيره الفشل الحتمي، لكن ماذا سيبقى منه أو ينتج عنه؟ البعض يرى أن القضاء على داعش سيؤدي إلى نهايته وانحسار التطرف وبداية نهاية الإرهاب، معتبراً داعش هو مَرض وليس عرضاً لمرض. يناقض هذا التصور من يتوقع بأننا سنواجه حالة أكثر داعشية مثلما أدى انحسار تنظيم القاعدة الإرهابي إلى ظهور داعش الأشد إرهاباً.. وبين هذين النقيضين تتنوع السيناريوهات المحتملة ناهيك عن نظريات المؤامرة الهوليوودية التي تتفرخ من كل جانب شذر مذر..
هل شارف تنظيم داعش على الاندثار أم سيعود مجدداً أم سيتشكل في إطار جديد؟ أياً كانت الإجابات احتمالية، فإن المؤكد أنها ليس نهايات، بل تحولات.. ربما داعش سقط كتنظيم، لكن البيئة الحاضنة للحالة الداعشية ما زالت مزدهرة..