المجلس قرين الكتاب، والجليس قرين الكاتب، والمذاكرة كالمطالعة، كلاهما مصدر العلم، ومنبع الثقافة والأدب، يتطبع المرء بطبع من أثر فيه، من جليس أو كاتب، ويحتفظ بما تعلمه بمطالعة أو مذاكرة، فاختيار المجلس كاختيار الكتاب.
وطباعة الكتاب وإخراجه كما المجلس وأثاثه، فيه ما هو جميل نضر، مصقول الورق، فاخر المقاعد، واضح الحرف، حسن الإنارة، وفيها عكس ذلك، ومن الكتب والمجالس ما هو عظيم النفع، طيب الأثر، يبدل القناعة أو يعززها، يحفز التفكير، ويعطي الثقة، ويدفع للسمو، ومنها ما يهبط بالهمة، ويثبط العزيمة، ويرغب في الدون، أو يضيع الوقت، ويبدد الجهد.
نأى والدي –حفظه الله- عن المجالس في أوسط عمره، وأول عمري، وتمتع بتقاعده بكثير من العزلة، وقليل من الخلطة، بين القراءة والتسلي بالأعمال الخفيفة، التي تناسب عمره، وهواياته الدائرة في فلك الآلة والهندسة، فلم يتح لي ارتياد كثير من المجالس، التي ارتادها من في سني مع والدِيهم، فكانوا تابعين لهم، يسمعون ولا يشاركون، ويحضرون ولا يُقصدون.
ولكل شيء وجهان، فلقد تفضل الله علي وعوَّضني بأن فتح لي مجالس متميزة، في سنٍّ مبكرة، أتاحت الالتقاء بالكبار، سنًّا وعلمًا، حتى انتظمت في دوائرهم، وكنت واحدًا من عدتهم، وإن كنت أصغرهم، فأفدتُ كثيرًا.
وتقصد المجالس لأصحابها، كما تقصد لروادها، وكان أستاذنا المربي الفاضل أبو سليمان محمد بن سليمان الشبل أحدَ الأعمدة الذي تبنى عليها كثير من المجالس، تزيد مكانتها بارتياده، وتثرى بمشاركته، وكنت أحرص على حضور ما تسنى لي منها، فحظيت بخير كثير، من أدبه وصحبته وأخلاقه وتربيته.
كما فتح لي أبوابًا مع شخصيات متميزة، لم أصل حبل العلاقة معهم قبله، وعلى رأسهم الشيخ عبد الله الفالح رحمه الله، تلك الشخصية العجيبة، التي طالما حيرت ببساطتها وتعقيدها، لقد كان لهما جلسة خاصة، تقتصر عليهما فقط، فمهد لي أبو سليمان الطريق، وجعلني ثالثهما.
كان مجلسنا عند الشيخ عبد الله ذا أبعاد متعددة، بيته من الطين، ليس فيه أي شيء من وسائل الراحة، نجلس في حجرته التي ينام فيها، ليس فيها أثاث إلا فراشه، ومروحة كهربائية، يجلس أبو سليمان على صندوق خشبي صغير عند رأس الشيخ، فيكون على يساره، وأجلس عن يمين الشيخ، وتدار المروحة لتخفف من حر الصيف، والحديث يدور حول النحو، وشواهده.
ولئن كان النحو وأبو سليمان هما مدخلي على الشيخ إلا أن تلك الحياة الغريبة، التي توقف الزمان فيها عند الثمانينيات الهجرية، فمضى وبقي الشيخ هناك، هي التي أستبقيها الآن، مستحضرًا تفاصيلها، استلهامًا واستفهامًا وتعجُّبًا.
يحمل أبو سليمان تاريخًا هو بطله، وتجربة ورأيًا هو صاحبه، لم يكن مقلدًا تابعًا، ولا ثائرًا فوضويًّا، كان مخضرم الزمان والمكان والمذهب، نعم كان نجدًا والحجاز، والأصالة والمعاصرة، والرومانسية والكلاسيكية.
في تاريخه الذي يقصه علينا مشاركات رسمية، مثل المملكة فيها ضمن الوفد الرسمي، في مؤتمر الأدباء العرب السابع في بغداد عام 1389هـ، قابل فيه كبار شعراء العصر، وحاورهم، كالجواهري، ونازك الملائكة، وأظنه أيضًا قابل السياب، كما شارك في مؤتمر الأدباء العرب في الجزائر عام 1381ه، وفي تونس 1393هـ (1).
لما أحب مكة عد نفسه واحدًا من أبنائها، لم تكن العلاقة بينهما الوظيفة والسكنى، بل تجاوزه إلى أبعد من ذلك، فتأثرت لهجته بلهجة أهلها، فكانت خليطًا عجيبًا من المحبة والانتماء.
كان أبو سليمان سخيًّا في علاقاته، ووجاهته، وعلمه، ونصيحته، ومن توفيق الله لي أن اختار الجامع الذي أخطب فيه ليصلي فيه الجمعة بانتظام، فأهدى إلي من ملحوظاته القيمة، التي تصلني منه بأسلوب عجيب، سداه الاحترام، ولحمته التوجيه، موشى بالطرفة، مصبوغ بالابتسامة، ناءٍ عن اللمز، مترفع عن الأمر السلطوي المباشر.
عرضت عليه شيئًا مما كتبت من الشعر، فأكرمني بلفتة قليل من يلفتها، فالناس إلى الانتقاد أقرب من النقد، يُفصِّلون في الزلل، ويُجملون في الإجادة، أما أبو سليمان فقد كان يفصل في الإجادة، فيحدد الأبيات التي يراها متميزة، هنا يتغير الموقف، وتزاد الرغبة في التطوير والتعديل.
لقد أفدت من هذا المنهج في مناقشة الرسائل العلمية، وفحص البحوث المحكمة، فالمتَّبع أن الكلام كله يدور حول مواضع الخلل، ويكررون عبارة في هذا المعنى، أن المقام ليس ذكر المحاسن، فهي الأصل، وإنما المقام حصر الخلل، فهو الأقل، ولكن الواقف موقف الاختبار، الذي ترد عليه الملحوظة تلو الملحوظة، بحاجة إلى ما يعدل المعوج ويعادل الكفة، من كلمة ثناء حقيقي، على سمة تميز، أو موضع إجادة، أو مُبتَكَرٍ لم يسبق إليه من قبل.
الأستاذ الشاعر، المربي الفاضل محمد الشبل، ذو الهيبة والسمت والوقار، أوصاف وألقاب تسبق اسمه وتلحقه، ولكن ثمة وصفًا متواريًا، أراد رحمه الله أن يتوارى؛ لأنه يريد العاقبة لا العاجلة، إنه التقي الخفي، لقد حفظ كتاب الله حفظًا متقنًا، غَيرَ مُعلِنِه لأحد، لا يتقدم لإمامة، ولا يضمنه شيئًا من حديثه.. كان يذاكره مع شيخ كفيف من جيرانهم، فلما كبر الشيخ وضعف ضبطه اعتذر منه.
ومن طريف ما أذكر حول هذا، أني أخطأت مرة في آية في صلاة الجمعة، خطأ لم يوقفني لتصحيحه أحد، فلما اجتمعنا عصر ذلك اليوم في مجلس الوجيه عبد الرحمن البسام رحمه الله، استدناني لأجلس بقربه، ثم أسر لي بالخطأ، وقال لم أعهد عليك خطأ قبله، فحمدت الله أنه لا يصلي معنا الفروض فيفتضح أمري عنده!
آخر عهدي به جلستنا الشهرية، يوم الأحد السابع من صفر 1441ه، وكان قد سبقني إلى المجلس عند الأستاذ عبد العزيز البسام، فما إن أخذت مجلسي حتى قال: ((أبا عبد العزيز أذكر عبارات دائمًا يقولها الخطباء: واعلموا أن الموت قد تخطاكم إلى غيركم وسيتخطى غيركم إليكم)) هكذا جاءت.. وكأنها استصحاب لحالنا في الجلسة بعد فقد أبي إبراهيم الأستاذ عبد الرحمن التركي العمرو رحمه الله.
في شهر ونصف، بعد كل جلسة نفقد واحدًا من أركان المجلس، رحم الله من مضى، وحفظ من بقي.
... ... ...
1 - أفادني بتواريخ هذه المؤتمرات د. بندر الروق، وكانت رسالته في الماجستير في شعر أبي سليمان رحمه الله.
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف - جامعة القصيم