د عبدالله بن أحمد الفيفي
-1-
جاء في كتاب «ما تلحن فيه العامَّة»، المنسوب إلى (الكسائي، -189هـ)(1): «وتقول: وَدِدْتُ أَنِّي في منزلي، بكسر الدَّال الأُولى. قال بعض الأعراب:
أُحِبُّ بُنَيَّتي ووَدِدْتُ أَنِّي
حَفَرْتُ لها بِرابِيَةٍ قُبَيْرا!»
وعلَّق محقِّق الكتاب في الحاشية، لمزيد فائدة!:
«...قبله مقطوعةٌ لشاعرٍ آخَر، نصُّها:
أُحِبُّ بُنَيَّتي ووَدِدْتُ أَنِّي
دَفَنْتُ بُنَيَّتي في جَوْفِ لَحْدِ
فإِمَّا أَنْ أُزَوِّجَها غَنِيًّا
فأَبْقَى عِنْدَهُ [مِنْ شِبْهِ] عَبْدِ
وإِمَّا أَنْ أُزَوِّجَها فَقِيْرًا
فتَبْقَى عِنْدَهُ والهَمُّ عِنْدِي
وإِمَّا أَنْ أُزَوِّجَها سَفِيْهًا
فيَلْعَنَ والدِيْ ويَسُبَّ جَدِّي
سَأَلْتُ اللهَ يَأْخُذُها قَريبًا
ولَوْ كانتْ أَعَزَّ النَّاسِ عِنْدِي!»
يُساق هذا، في كتب اللغة العربيَّة، توقِّيًا للحن العامَّة. ولكن ماذا عن لحن الخاصَّة؟ لحن الثقافة، والدِّين، والقِيَم، والإنسانيَّة؟! لا اكتراث بذلك كلِّه! بل إنك لو تتبَّعت نشر هذا الغثاء، لوجدت أنه يُتداوَل بوصفه شِعرًا ظريفًا، فضلًا عن أنه شاهدٌ لغويٌّ مهمٌّ، لولاه ما وجد اللغويُّون شاهدًا على كسر دال «ودِدتُ» الأُولى! إنه- في حقيقة الأمر- شاهدٌ على ثقافة وأد البنات، قبل أيِّ شيءٍ آخَر. وإذا كان هذا لدَى مثل ذلك الأعرابي المنسوبة إليه الأبيات- إنْ صحَّ أنه أعرابيٌّ، ولعلَّه من أهل الجاهليَّة- فلقد امتدَّ الأمر إلى ما بعد الإسلام، وعاش إلى ذُروة الحضارة الإسلاميَّة، في العصر العبَّاسي، متردِّدًا على ألسنة كبار الشعراء إذ ذاك، مثل (البحتري)، و(أبي العلاء المعرِّي)، وغيرهما.(2)
أمرٌ طَبَعيٌّ أن تكون في الذَّكَر نزعةٌ ذكوريَّة، وفي الأنثَى نزعةٌ أُنوثيَّة، تلك سُنَّة الله في كونه. بل رُبَّ امرأةٍ بدتْ أكثر ذكوريَّة من رجل! وإنَّما المعيب أن تتحوَّل النزعتان إلى عنصريَّةٍ وظُلمٍ للطَّرَف الآخَر.
-2-
إن المرأة وحقوقها سماءٌ رفيعةٌ جِدًّا، لا يُتوقَّع الاكتراث ببرقها ورعدها، ما دامت الأرض ما انفكَّت دون ذلك بكثير. على أن الخطاب النسويَّ في عالمنا العربي يبدو بدوره خائضًا في ضربٍ ممَّا كان يُنعَت بالتعبير الشعبي: «حكي الحريم»! أي حديث النساء، الذي لا يخرج من هموم المرأة الخاصَّة إلى غيرها. موادُّ صحفيَّة، وموادُّ تُسمَّى أدبيَّة، لا تخرج عن هذه العقليَّة، وإنْ تقمَّصت لغةً تُظهِر الثقافة. مئات الكاتبات لا همَّ لهنَّ إلَّا البكاء على المرأة، وقضاياها، ومظلوميَّاتها من الرجل، في مقالاتهن، ورواياتهن، وقصصهن، وشِعرهن. بل منهنَّ مَن لا بضاعة لديها غير هذه أصلًا؛ لأنها لم تكتب قط وفي جعبتها غير هذه الموضوعات، لا معرفيًّا، ولا أدبيًّا. ولنا أن نتخيَّل لو أن الرجال في المقابل انكبُّوا على الحديث عن الذكورة في أعمالهم، وتفرَّغوا للشكوَى من النساء وكيدهنَّ العظيم، أيُّ مجتمعٍ إنسانيٍّ مريضٍ سنكون، وأيُّ خطابٍ مشوَّهٍ سنُنتِج؟! حينما تُردِّد المرأة (النسويَّة) نقمتها على (الذكوريَّة) وقيمها، فهي- غالبًا- إنَّما تتبنَّى فكرًا متطرِّفًا مضادًّا، من حيث إن القضيَّة هنا هي قضيَّة فكرٍ وتربيةٍ اجتماعيَّة، لا قضيَّة جِنسٍ ونوع. والذَّكَر نفسه هو ضحيَّة ذلك الفِكر وتلك التربية، كالمرأة تمامًا. بل إن الذَّكَر ضحيَّة فِكر المرأة وتربيتها قبل أيِّ ثقافةٍ أخرى! أوليست المرأة أُمَّ المجتمع، من ذَكَرٍ وأنثى؟!
وفي بعض مجتمعاتنا العربيَّة المعاصرة، والمتخلِّفة قيميًّا، فإن رجلًا، إذا أراد أن يَشْتُم آخَر، قال له: «يا ابن المَرَة/ المرأة!» أوهناك من ليس بابن امرأة؟! إنَّما هو الازدراء المريض للمرأة! وعلى المرأة، إذن، أن تتساءل عن فكرة (الأُموميَّة) التربويَّة، التي تُنتِج تلك العقول والنفوس، لا أن تعلِّق آثامها- دائمًا- على فكرة (الذكوريَّة).
-3-
قد يقول قائل: أعطوا النساء حقوقهنَّ، ينتهي الخطاب النِّسوي، فما هو سِوَى تعبيرٍ عن هضم حقوق المرأة! بَيْدَ أن هذه الحُجَّة غير صحيحةٍ، في كلِّ الأحوال. بدليل أن الحركة النِّسويَّة feminism، (أو نظريَّة المساواة بين الجنسَين)، هي حركة عالميَّة، في الغرب قبل الشرق، وما كوادرها العربيَّة والإسلاميَّة إلَّا أصداء، كأصداء أُخرى هنا لأصوات هناك. ونظريَّة المساواة بين الذَّكَر والأنثى هي، بمفهومها السطحيِّ الرائج، مضادَّةٌ لفكرة «الاختلاف»، والاختلاف مكوِّنٌ بنيويٌّ، طبيعيًّا وحضاريًّا. وهذا سلوكٌ من التفكير ظلَّ يعطي المبرِّر للعقليَّة الذُّكوريَّة، في المقابل. ففي الثقافة العربيَّة، مثلًا، نجد خطابًا يرى العقل ذُكوريًّا. يومئ إليه قول الشاعر (أبي تمَّام)(3):
تَصْدَا بِها الأَفهامُ بَعدَ صِقالِها
وتَرُدُّ ذُكرانَ العُقولِ إِناثا
كما يقول (أبو الطيِّب المتنبِّي)(4)، في هجاء (كافور الإخشيدي):
لَقَد كُنتُ أَحسِبُ قَبلَ الخَصِيِّ
أَنَّ الرُؤوسَ مَقَرُّ النُّهَى
فَلَمَّا نَظَرتُ إِلى عَقلِهِ
رَأَيتُ النُّهَى كُلَّها في الخُصَى
وما أشبه الليلة بالبارحة!
... ... ...
(1) (1982)، تحقيق: رمضان عبدالتوَّاب (القاهرة: مكتبة الخانجي، الرياض: دار الرفاعي)، 106.
(2) انظر كتابي: (2006)، نقد القِيَم: مقارباتٌ تخطيطيَّة لمنهاجٍ عِلْميٍّ جديد، (بيروت: الانتشار العربي)، 93- 95.
(3) (1987)، ديوان أبي تمَّام بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق: محمَّد عبده عزام (القاهرة: دار المعارف)، 1: 322/ 36.
(4) (د.ت)، شرح ديوان المتنبِّي، وضعه: عبدالرحمن البرقوقي (بيروت: دار الكتاب العربي)، 1: 166.