سهام القحطاني
قلت في نهاية الجزء السابق إن هناك فرقا فلسفيا بين البنى الفكرية والصيغ المعرفية التي تأسست في ضوئها جدلية العقل المعرفي.
ويمكن وضع جدولة من المقابلات التي تقدم لنا تفسيرا لذلك الفرق بصورة ذهنية مبسطة؛ باعتبار أن «الفرق هو علاقة تفسيرية رابطة بين أصل ومعادِل لاستظهار الخصائص التعريفية لذلك الأصل».
وبذلك فالتقابل هنا ليس المقصود منه «إيراد الشيء مع مايباينه» ليس الضد بالضد، وليس أيضا المقصود منه «إيراد الشيء مع ما يماثله» ليس المطابق بالمطابق.
فالتباين والمماثلة ليستا المقصود هنا؛ إنما المقصود بالتقابل وفق هذا المقام «المعادل التفسيري للأصل لغة وتطبيقا»، ويمكن اعتباره أيضا «النائب التعريفي للأصل وقيمته».
وتزاد تلك الأهمية للتقابل لقدرته على تمثيل مصدر لنشأة الخطاب سواء المعرفي أو الفلسفي، وبذلك التمثيل تٌصبح بالنائبية عن البنية الفكرية فاعل الجدلية، وتلك النائبية ليست برهان توحيد إنما دليل تكامل.
وجدولة المقابلات أو المعادِلات التفسيرية للأصل -البنية الفكرية- هي كالآتي:
فالماهية والترميز الدلالي والمصطلح والتوصيف والكامن يقومون مقام «البنى الفكرية» في مقابل أن الصورة والمفهوم والقالب الإجرائي والتمثيل يقومون مقام «الصيغ المعرفية».
فالماهية تقابلها الصورة، والترميز الدلالي يقابله المفهوم، المصطلح يقابله المعنى، والتوصيف يقابله القالب الإجرائي، والكامن يقابله التمثيل.
ووفق تلك الجدولة يمكن القول بأن «البنية الفكرية» هي «الكينونة الدلالية لهوية الجوهر» ويمكن القول أيضا بأنها «الكينونة النسقية المنظمة لروابط ثنائية الدال والمدلول»، ويقصد بالنسقية هنا «النظام التفكيري المتحكم في حركة تلك الروابط وكيفيتها».
في حين أن الصيغ المعرفية هي «مجموع العلاقات وخصائها الممثلة لتلك الكينونة»، أو الآثار الحاصلة للكينونة سواء في مستواها الدلالي أو النسقي.
كما يُمكن أيضا جدولة من الخصائص التي تميّز كليهما.
فالبنية الفكرية تتميز بالكلية والمحايدة والثبات الدلالي وليس السكون؛ لأن السكون آلية قفل، في حين أن الثبات الدلالي ليس مانعا أو حاجزا لأي تمدد سواء في بعديه الأفقي أو العرضي.
في حين أن الصيغة المعرفية كمعادل تفسيري للبنية خصائصها تتبلور من طبيعتها الإنسانية.
فالمقاصد هي من خصائص المعادلات التفسيرية وليست من خصائص البنية الفكرية وبذلك فالبنية غالبا فارغة من أي أيديولوجية، خلاف المعادل التفسيري لها الذي غالبا ما يكون محقونا بأيديولوجية مخصوصة لذاتها.
كما تُعتبر العلامات الثقافية والأنماط السلوكية والمعايير والأحكام والقوانين والعلاقات والتداولية أيضا من خصائص المعادِلات التفسيرية للأصل -البنية الفكرية-.
وفي ضوء تلك البنى الفكرية ومعادلاتها التفسيرية تأسس العقل المعرفي.
لكن لو حللنا مفهوم العقل المعرفي فلن يكون قاصرا على الشريحتين التكوينيتين السابقتين، وما يُضاف إليهما لا يعني تقليل لقيمة شأن التأسيس سواء في مستواه الأولي أو التفسيري، إنما هي إضافة طبيعية بفعل حتمية التراكم والتداولية.
عندما يأتي ذكر «العقل المعرفي» فإن ثمة دلالات تظهر للإشارة إلى تلك الماهية مثل «الوعي، كفايات الفهم وقوالب التعبير، الفاعلية في مستوييها التصنيفي السلبي أو الإيجابي، الأنساق التفكيرية، الممارسات السلوكية، والأنماط اللغوية.
وفي حقيقة الأمر أن ما ذُكر سابقا ماهي سوى الآثار الدالة على ماهية العقل وليست الكينونة الدلالية للعقل المعرفي في ماهيته. وذلك أمر طبيعي من ناحية الحيثية؛ أي تعريف الماهية من خلال الأثر أو الاستدلال على الماهية من خلال العلاقة الممثلة لتلك الماهية، ولعل الأمر هنا متعلق بطبيعة أولويات الكفية الفهمية والتعبير عنها التي اعتاد عليها العقل الإنساني.
فقد تعود العقل الإنساني من خلال كفاياته الفهمية أن يستنتج الدال من الأثر أو يشكل كينونة دلالية من خلال العلاقة القائمة؛ أي أن التفاصيل هي التي تصنع الكليات.
وبذلك فإن الماهية كأصل فكري تعتمد دورتها البنيوية على مرحلتين.
المرحلة الأولى: وتعتمد هذه المرحلة على الطبيعة الأولى لفهم الإنسان القائمة على «الحسية» وهي خاصية تتبلور من خلال التفاصيل المادية التي تُشكل فيما بعد الكينونة الدلالية للأشياء في مسارها التجريدي وهذه المرحلة هي التي يتم من خلالها تكوين الخبرة.
والمرحلة الثانية تعتمد على تفكيك الكينونة الدلالية للماهية وتحويلها إلى قوالب للمعادلات التفسيرية وهنا تتم عملية تكوين إشكاليات الإدراك المعرفي التي تفتح مسارات البحث عن الماهيات المنتجِة للأثر والعلاقة وهو بحث سيحقق في مرحلة لاحقة آليات الخطاب وعلاماته الثقافية.
ولا شك أن تلك المرحلتين كان لهما الأثر في تشكيل العقل المعرفي عند الشعوب وتشكيل علاقته بالعلم والثقافة، وهذه حديث آخر.