كانا يسيران على مهل، فجأة خرج فضولي ثقيل كعادة أهل هذه الصنعة وأربابها، سألهما إلى أين المسير؟، إلى الحديقة، كان ذلك جواب أحدهما، الفضولي: رقم عشرة يسير إلى الحديقة، في محاولة للمز أحدهما كونه الأقصر قامة، يتصدى القصير للفضول وصاحبه قائلا: شكرًا لك أن جعلتني صفرًا، لكنني في مقام أعلى، يضيف لمن حولي بعدًا قيميًا ينقله من خانة إلى خانة ومن مدار إلى مدار أكبر، فالعشرة صفر وعلى اليسار واحد، والمئة صفران وعلى يسارهما واحد، والمليار تسعة أصفار وعلى اليسار واحد.
سكت الفضولي الطويل منتظرًا الأسوأ، تابع القصير قائلاً: أنت في طولك الفارع وتأثيرك الضئيل في نفسك والحياة كالرقم تسعة ولكنه مسبوق بذلك الحاجز الحسابي والنفسي المسمى (فاصلة)، محكوم بقواعد رياضية ورقمية تجعله في أحسن أحواله جزءا عشريًا يستجدي صفرًا مثلي -كما تقول - ليخرجه من قاع التجزئة وغياهبها وظلمتها وظلمها، ليُحسب على الأعداد الصحيحة المؤثرة والمتأثرة، ليصنع له قيمة في أي عملية عدٍّ تلوح في أفقه القادم وإن كان لا أفق يلوح في مستقبل تلك التسعة العشرية، برأسها المنتفخ وطولها الفارع والفارغ.
بعض البشر تتغشاهم هالة من الوقار، وهي بلا شك حالة شكلية تشكل صورهم وأجسادهم، وما أن تغوص في دهاليز شخصياتهم تجدهم كالبيت الخرب، خواء من كل شيء، سوى أنا زائفة تجعلهم يرون أنفسهم قبل الجميع وبداية التاريخ ومآله.
شاعر العرب الحكيم، زهير بن أبي سلمى، صور معنى الكمال الإنساني من وجهة نظره حين قال: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده، فلم يبق إلا صورة اللحم والدمِ، وهذا ما جعل العرب تؤكد هذا المعنى لاحقًا عندما تقول: المرء بأصغريه قلبه ولسانه، فالقلب هو وحدة التحكم واللسان هو الترجمان الذي يخرج مكنون النفس وغموضها والباقي صورة تشغل حيزًا في الفراغ وربما تكون بلا ثِقل.
بعض البشر يختزل الكمال في ذاته وفي نعم ساقها الله إليه، ولو رأى نظرة البشر إليه لعاد وقيم نفسه واستعاذ من شيطانه ووسوساته ونزغاته.
العظماء لم يخلد التاريخ سمتهم ولا شكلهم ولا هندامهم، بل خلد نتاجاتهم الإنسانية العظيمة، غاندي-كنموذج إنساني- تنازل عن كل شيء حتى اللباس إلا ما ستر سوءته، كل ذلك ليرسخ مفهومه في مقاومة المستعمر، فارتدى الدوتي والشال بعد أن غزلهما بيده وبعد ذلك مضى في كفاحه ضد المستعمر حتى نالت بلاده استقلالها وحريتها.
هذا نموذج إنساني للمخبر والخبر اللذان صنعا الفارق لأمة، وكتبا ملحمة عظيمة للتاريخ الإنساني.
في عالمنا اليوم لم تعد الصورة المثالية للأشياء هي كل الحقيقة، والتي تعكس ما نود رؤيته وما نتمنى سماعه.
قد تكون الصورة الطاغية، ابتسارًا واجتزاء لخبر صادم يعكس ضحالة على مستوى القيمة والحضور، وهي أيضًا وإن زانت وزينت تظل مبتدأ يؤكدها الخبر، والخبر إن تقدم أو تقادم وأخر أو تأخر، فهو الماكث والمتن وهو الأثير والأثر.
** **
- علي المطوع