كانت الكتب إلى وقت قريب في المشهد الثقافي العربي مصدرا لثراء لغة القارئ وقوتها ورصانة أسلوبه. فعندما تقرأ في كتب الجيل الذي تصرّم (ومن قبله) فإنك بالإضافة إلى الفائدة العلمية، ستخوض تجربة تنمي لغتك وترتقي بذائقتك اللغوية غالبا، حتى لو لم يكن المؤلف أديبا أو متخصصا في اللغة العربية. فتقليديا، وفي كل اللغات تقريبا، كان المؤلفون – بشكل عام - يتميزون بقوة لغتهم وجودة بيانهم.
ألحظ، آسفا، أن هذا الأمر تغير في واقع التأليف العربي في العقود الثلاثة الأخيرة. فقد صار القارئ يُصدم بلغة ضعيفة كثيرة الأخطاء وأسلوب ركيك، يحار أحيانا لركِّته واستعجامه في فهم المعنى المقصود من عباراته. بل كثير ما يصرف هذا كله القارئَ عن مواصلة قراءة الكتاب. فالخطأ اللغوي للعين والعقل كالصوت النشاز للأذن، أو أشد أحيانا. وأنا لا أقول هذا إلا بعد أن مر بي بضعة كتب رأيت فيها ذلك بجلاء، مع أني غير متخصص في اللغة العربية. وهذه الكتب مما ألف بالعربية، أما المترجم فحدّث ولا حرج!
أنا هنا لا أتكلم عن قوة الأسلوب وبلاغته فهذا كاد أن يندثر، مع ذهاب جيل الرواد من كتّاب العربية المعاصرين. وهذا الأسلوب صار يُنفر من كتابات صاحبه وينظر إليها على أنها تكلف. ولا أتكلم أيضا عن الأخطاء الطباعية، فهذه أحيانا شر لا بد منه، وهي في النهاية من مسؤولية الناشر، الذي يسعى لتوفير مئات الريالات، غير مكترث لظهور هذه البثور في وجه الكتاب الذي ينشره. ولا أتكلم عن الأخطاء في التركيب الصرفي الذي ربما لا يحسنه إلا المتخصصون، أو قد يضطر إلى تجاوزه بعض الكاتبين لسبب من الأسباب.
إنما أتحدث عن سلامة اللغة من حيث التركيب النحوي، الذي هو أساس البنية اللغوية. لقد لفت انتباهي عدد من الكتب في تخصصات مختلفة (التربية وعلم النفس والنقد الأدبي! والفكر، وغيرها) لا تكاد تخلو صفحتان منها من خطأ من هذا النوع. وهنا أيضاً لا أتكلم عن قواعد وتراكيب نحوية غامضة، أو مما يختلف آراء النحاة أو يختلف في الإعراب بناء على «الحذف والتقدير». إنما أتحدث عن أخطاء ظاهرة يفترض ألا تقع حتى من غير المتخصصين ممن يعملون في التأليف والكتابة، مثل اسم كان وإن وخبرهما، أو المضاف أو الفاعل أو الفعل المضارع بعد حرف الجزم، ونحو ذلك من أساسيات النحو من القواعد التي يسهل فهمها وتتكرر لدى أي كاتب. فمثل هذه القواعد لا يعذر كاتب اشتغل بالتأليف والمحاضرة ألا يعرفها، فهي (مما لا يسع الكاتب جهله) أو (من ضروريات الكتابة). هذه الأساسيات لا يعذر الكاتب بجهلها لأنها قليلة وسهلة الفهم والتطبيق وتكثر الحاجة لها. وإهمالها يدل على ثلاثة أمور:
الأول عدم الاكتراث باللغة. واللغة كما هو معروف هي وعاء الفكر والمعاني. فشخص لا يحترم وعاء فكره ومعانيه التي يقدمها للناس، ليس حري بأن يُحترم ولا يحترم فكره. فهو كمن يقدم الطعام لضيفه في إناء قذر أو مكسور أو مخرّق. وما زال الاهتمام باللغة والحساسية تجاهها سمة لكل المؤلفين في العلوم الإنسانية عامة، لأنهم يدركون العلاقة بين اللغة والفكر.
الثاني، عدم احترام القارئ. فمن لا يحرص على سلامة اللغة التي يكتب بها ويتواصل بها مع قرائه وشركائه في مجاله العلمي والفكري، هو في الواقع لا يحترمهم، ولا يعظّم ويُجلّ المحتوى الذي يقدمه لهم من خلال هذه اللغة. فالقارئ يفهم النص ويستمتع بقراءته من خلال اللغة. وقد كان الكتاب بمن فيهم ذوو الأسلوب الصعب يحرصون على أن تكون لغتهم الكتابية سليمة ومستقيمة.
الثالث، أنه مؤشر غير مباشر (لكنه صادق) على المستوى العلمي العام للمؤلف، ومقدار قراءته. فالمؤلف المكثر من القراءة الجادة لا بد أن ينعكس ذلك على لغته الكتابية. ولا يمكن أن يكون قارئ جاد ضعيف اللغة. قد يُقال إن هؤلاء الكتاب يقرؤون باللغة الإنجليزية. وأقول إن هذا غير صحيح، فغالب من لحظت في مؤلفاتهم الأخطاء اللغوية أكثر مراجعهم إن لم يكن كلها مراجع عربية. بل الملاحظ أن من يعتمد – حقيقة - على المراجع الأجنبية تكون لغته العربية أمتن وأعلى. ولا أظن أحدا - ممن اطلعت عليه - أكثر اعتمادا على المراجع الأجنبية فيما يكتب من أحمد أمين وزكي نجيب محمود، ومع ذلك فمؤلفاتهما – مع محتواها العلمي - قطع أدبية.
إن من المتعارف عليه بين المتعاملين باللغة الإنجليزية أنه لا يجرؤ أحد أن يكتب ورقة علمية أو مقالاً ويكون فيه أخطاء نحوية، لكن تجد كثيرا من المؤلفين العرب لا يتردد في ذلك لحظة. وكل كتب الكتابة والتأليف التي باللغة الإنجليزية تؤكد على أن (اللغة الصحيحة) أهم أدوات الكاتب، وتخصص فصولا للقواعد النحوية والكتابية المهمة. علماؤنا المتقدمون أدركوا ذلك، ولذلك ألفوا في (أدب الكاتب) و(الألفاظ الكتابية) واحتفوا بهذه الكتب وشرحوها.
هب أن المؤلف يجهل هذه القواعد، أفَليسَ عنده (أو عند دار النشر) من احترام العلم واحترام اللغة واحترام القارئ (على الأقل لما يدفعه من نقود مقابل الكتاب!) أن يدفع بالكتاب إلى محرر لغوي؟ وهب أن المؤلف بلغ به الجهل ذلك المبلغ، فأين دار النشر وأين مسؤوليتها عن إماطة هذه الأذى اللغوي عن أعين القارئين. أعجب كيف تسمح دار نشر محترمة أن يصدر كتاب فيه أخطاء لغوية. وما دور اتحاد الناشرين العرب في ذلك؟!
إن التساهل في لغة الكتابة صورة من صور الضحالة الفكرية، ومؤشر على المستوى المتدني الذي وصل إليه الإنتاج العلمي والثقافي في العالم العربي. وقد يكون من أسبابه غياب النقد لما ينشر، وتساهل دور النشر بسبب البحث عن الربح المادي في نشر الكتب دون التأكد من جودتها اللغوية. لعلي لا أجانب الصواب إذا قلت إن قدرة المؤلف على الكتابة بشكل صحيح معيار صادق غالبا على تأهله للتأليف، فمن وجد في نفسه عدم القدرة على صياغة نص لغوي دون أخطاء واضحة - مما تمت الإشارة إليه - فإن هذا - فيما أرى - مؤشر قوي على أنه لم يتأهل بعد.
** **
- د. راشد العبد الكريم