عندما وصل كريستوفر كولومبوس إلى أرض «الذهب»، اكتشف أن أهل هذه الأرض لا يعرفون «قيمته» ولا يعنيهم بشيء. وعلى الرغم من ذلك شنّ عليهم حرب إبادة مسعورة. جل ما فكر به هو أن «الهنود الحمر» سيكونون عائقاً أمام كنز من الذهب بحجم قارّة لو «أدركوا» قيمته كما يفهمها هو. وهكذا ثبت كولومبوس مفهوم الحرب الاستباقية في «النظرية اللصوصية»، واستمر هو وذريته في تلك الحرب حتى لم يبق من الهنود الحمر إلا قلة قليلة يعيشون في محمية معزولة!
ورثة كولومبوس من «اللصوص الجدد» أو «الليبراليون الجدد» يرتعبون أيضاً من «وعي الموجوعين»! فهو الكفيل بالقضاء عليهم إذا تنامى. كما أنهم لا يملكون سلاحاً متفوقاً مثل كولومبوس وزمرته، قياساً بما كان يملكه الهنود الحمر. ولم يبق أمامهم سوى حرف البوصلة، وتحريك أمواج الوجع الذي صنعوه بأنفسهم لتدمير الصالح قبل الطالح، وتدمير الدولة الحديثة والأنظمة لإشاعة الفوضى وشريعة الغاب.
بيد أن شريعة الغاب لم تنجح في كبح جماح «أمواج الوجع» لدى الناس أو حرف مسارها. فبعد أن أغرقوا لبنان بالديون والنفايات والعوز، يحاولون جرّه إلى حرب أهلية تقضي على ما تبقى من دولة! وفي العراق كذلك؛ لتكون سوريا؛ التي تكاد تخرج من أزمتها؛ بين فكي حربين أهليتين وإعادتها إلى نقطة الصفر! فهل هذا ممكن؟
كل المحاولات لحرف البوصلة في أميركا اللاتينية وآسيا وإفريقيا وأوروبا «أوكرانيا» باءت بالفشل، بل تنامى وعي الجماهير الجائعة. وعلى الرغم من محاولات محمومة لإشعال حرب أهلية في العراق، وإغراق العراق بالفساد والمؤامرات والدسائس، إلا أن العراق بقي صامداً وأعاد توجيه البوصلة! بل إن لحمة الشعب العراقي ازدادت أضعافاً مضاعفة، وفشل التقسيم والتشتيت والفتن.
لبنان ليس بعيداً عن إعادة توجيه البوصلة، ولكن المحزن في لبنان والعالم العربي كله، أن اليسار لم ينهض بعد من كبوته السابقة. وهو مطالب أكثر من أي وقت مضى لأن يعيد إنتاج نفسه لخدمة «أمواج الجياع والوجع»، وليكنس ما تبقى من استعمار وفساد مرتبط به. ولن يتأتى ذلك من خلال اجترار الخطاب السابق، فقد سئمت منه الجماهير والزمن. ولا بد من التعامل مع الواقع كما هو، وعدم تحميل الجماهير أكثر مما تحتمل. كما أن التغيير يتطلب العمل الجبهوي مع كل القوى التي تطالب ببناء الدولة الحديثة مهما كانت مسمياتها.
** **
- عادل العلي