صالح شيحة
بعد أن انتهى (أبراهام لينكولن) - الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة الأمريكية- من كتابة هذه الرسالة، تراجع عن نيته في إرسالها للجنرال (ميد)، واحتفظ بها ضمن أوراقه الخاصة، وكان محتوى الرسالة:
عزيزي الجنرال..
يبدو أنك لم تُقدر حجم الضرر الذي نتج عن فرار جيش الجنرال (لي) الذي كان في قبضة أيدينا، إذ لو أنك قمت بما ينبغي لانتهت الحرب، بينما سوف يطول أمدها الآن، وإذا كنت لم تُهاجم (لي) يوم الاثنين الماضي، فكيف سيمكنك مهاجمته جنوب النهر، وليس معك سوى ثلث جنودك، لقد تركت فرصة ذهبية تمر من بين أصابعك، وإن ألمي لما حدث لشديد..
كانت الرسالة رد فعل طبيعي، لعدم انصياع الجنرال (ميد) لأوامر (لينكولن) بالقضاء على جيش الجنوب بقيادة الجنرال (لي) أثناء انسحابه، فقد وجد الجنرال (لي) حينما وصل (بوتوماك) أمامه نهراً لا يمكن عبوره، إذن من وجهة نظر (لينكولن): لا توجد فرصة أفضل من ذلك للقضاء نهائياً على جيش الجنوب، ويرفض الجنرال (ميد) انتهاز هذه الفرصة، حتى استطاع الجنرال (لي) الفرار بقواته، بعد انحسار النهر.
لكن لماذا لم يُرسل (لينكولن) لقائد قواته (ميد) هذه الرسالة؟
لأنه أصبح يفكر، قبل إطلاق سراح الكلمات من فمه، ويعلم ماذا قد تفعل الكلمات؟
لقد انتهى بالفعل من الكتابة، ولكنه تذكر فترة شبابه، وكيف أنه كان دائم الانتقاد للجميع، لا يتوانى عن السخرية من الآخرين، بوسائل متعددة: بلسانه، بالرسائل، بالقصائد.
وكان يتفنن ويجد لذة في العمل على ذيوع ما يكتبه من رسائل، بأن يلقى بها في قارعة الطريق، لتقع في يد أحد المارة، ويذيع ما بها.
لكن هذا السلوك جعله يفقد الكثير من أعز أصدقائه، وأوصله إلى ما لا يحمد عقباه، فقد تعرض بالنقد لأحد الساسة الأيرلنديين المعروفين بالتعجرف والغرور والاعتزاز بالنفس (جيمس شيلدز)، ولسوء حظ (لينكولن) أن النقد تم نشره في صحيفة (سبرينج فيلد)، فأصبح (شيلدز) محط استهزاء الناس، مما جعله يغضب أشد الغضب من (لينكولن)، ويدعوه إلى مبارزته نداً لند.
لم يستطع (لينكولن) رفض هذا التحدي، وإلا فقد كرامته وشرفه، واستعان بأحد خبراء المبارزة لتدريبه على القتال، وجاء الموعد، والتقى الخصمان، ولكن المشاهدين للمبارزة استدركوا الموقف، واستطاعوا إيقافها قبل أن يقتل أحدهما الآخر.
وخرج من هذا الدرس بلسان لا يتحدث إلا بما هو حسن، وعقل يفكر ويتمعن في ما وراء الكلمات، ولم يعد ينتقد أحداً، ولا يوجه اللوم لأحد، ويطالب بعدم لوم أحد، ويقول: لا تدين أحداً حتى لا تدان.
تمتلئ الكتب بالمآسي الناتجة عن اللوم، فهناك من انتحر؛ بسبب تعرضه للوم، وهناك من تعرض للقتل ممن كان يلومه.
إذن كن حكيماً ولا تلقي باللوم على أحد، فجميعنا إلا من رحم ربي نرفض ونتكبر أن نعترف بأخطائنا.