د. تنيضب الفايدي
كان ذلك قبل نصف القرن بالتمام والكمال، حيث حمل المعلم الجديد حقيبته وبها دفتر لإعداد الدروس (التحضير)، وكان ينتظر الابتعاث والأمل كبير، (لأنه الأول على مستوى المملكة). وكان من الشروط المكتوبة من قِبل الوزارة (ويتم ابتعاث الأوائل)، وكان يعتقد أن ذلك صحيح ولا يدري أن ما يكتب من شروط لا يطبّق وإنما هو إغراء لدخول معاهد المعلمين الثانوية، ولأول مرة يقف أمام الطابور (الاصطفاف الصباحي) وصدفة كان وقوفه أمام الصف الأول وكان التلاميذ يأتون من منازلهم إلى المدرسة مباشرةً أي: لا توجد روضات (آنذاك) ولاحظ المعلم الجديد أن هؤلاء التلاميذ يتطلعون يميناً وشمالاً، سواءً في زملائهم أو في المعلمين أو المبنى المدرسي، وقد رأى المعلم أن هؤلاء قد خطوا خطوة الأمل الأولى، حيث يفتتح الطفل.. هذا البرعم الراسخ في أعماق الحب الأبوي.. حياته المدرسية مسربلاً بالدهشة..!
تحلّق أمام عينيه أسراب الأسئلة الحائمة حول منهله الجديد... بيئته المدرسية المستقبلية..
- من هؤلاء؟
- كيف أكون بينهم؟
- من هذا الذي يقف بجانبي؟ من أين أتى؟.. ابن من يكون؟.. انظروا كيف يتصرف؟
- هل أنسى دفء المنزل، وحرارة عاطفة الأسرة كل في هذا الوقت في هذا المبنى الغريب؟
- ما هذا الترتيب الذي يحكم فصوله؟
هذه أفكاره مصوغة بلغة الطفل، وإن علت ألفاظاً... تسيطر هذه الأفكار والأسئلة على عقول هذه البراعم المسافرة كل صباح إلى مستقبل مختبئ في الحقائب الصغيرة المفعمة بالآمال العراض لهم ولأسرهم ولمجتمعهم ووطنهم، إنهم الحياة المتجدِّدة وهبها الله لمن يشاء من عباده.
وأمام هذه التساؤلات يقف الطفل حائراً فيشعر بالحرج وعدم السعادة ويودّ الهروب من الموقف، فكلّ شيء يوحي بعدم الطمأنينة والاستقرار؛ لأنه شعر بأنه انسلخ من محيط عائلي مفعم بالحب والطمأنينة والأمان، وواجه عالماً مجهولاً لا يملك صورة يقينية عنه، فإن كان قوي الشخصية، واثقاً من نفسه، انطلق يحاور الآخرين، لأنه انطلق من بيئة (منزل) عودته السير في ركاب الجماعة وإلا انطوى على نفسه ووجد صعوبة في التكيّف مع المدرسة (البيئة الجديدة). والمعلمون وأولياء أمور هذه الأزاهير من طالبات وطلاب، مستجدات ومستجدين كل أولئك يحثون الخطى نحو هدف مشترك، يملي عليهم التآزر والتعاضد ومعرفة خصائص نموهم الجسمي والعقلي واللغوي ومتطلبات نموهم الانفعالي والخلقي والاجتماعي والمشكلات التي يتعرضون لها وأساليب التعامل معها.. وستؤتي الجهود المشتركة للأسرة والمدرسة ثمارها بنجاح الطفل أو الطفلة في التفاعل مع الحياة والأحياء والأشياء ضمن خطواته الأولى في طريق تكيّفه وتكيّفها النفسي والاجتماعي والفكري مع المجتمع الذي يعيش وتعيش فيه، والوطن الذي ينتمي أو تنتمي إليه.
والكلمة الأخيرة إلى المنتمين إلى الصفوف الأولية من المعلمين والمعلمات وكافة المربين المشاركين في العملية التربوية، حيث إنهم مطالبون بتهيئة البيئة الجديدة، لتكون زاهية، مشرقة ومحببة، وذلك للإجابة على تلك الرؤى الحائرة الحائمة على أخيلة هذه الأزاهير المتفتحة بندى صباح ربيعي حالم، لعله يصبح - ذات يوم- قصيدة عبقرية تنبثق من طفل صغير يضع خطوة الأمل الأولى على الطريق التربوي التعليمي.. المحفوف برعاية الله وتوفيقه ورضاه.