د. محمد بن يحيى الفال
من المُتعارف عليه بأن الناس أعداء ما يجهلونه وهو الأمر الذي ينتج عنه عادة تكوين صورة مُغيارة للواقع المعُاش وأفكار مشوشة وسلبية في غالب الأحيان يحملها الإنسان في مُخيلته وتكون عصيه على التغيير وهو ما أطلق عليه المختصين في دراسة الظواهر الاجتماعية وعلى رأسها الرأي العام مصطلح «الصورة النمطية السلبية، وهي الظاهرة الاجتماعية التي عرفها رائد علم الرأي العام Stereotyping» الأمريكي والتر ليبمان بأنها الصورة داخل رأس المرء التي يهدف من تكوينها مساعدته على تدبر أمره من خلال تبسيط العالم الاجتماعي من حوله، وهي صورة ناقصة في طبيعتها ونتاج لعمليات ومعالجات فكرية خاطئة وتكون نتيجتها تشكيل صورة ذهنية غير صحيحة ومشوشة وبشكل كبير لدى الفرد.
ويستطرد ليبمان في شرحه للصورة النمطية السلبية بقوله: إن الناس عادة ما يتخيلون الأشياء قبل أن يجربوها في الحقيقة أو الواقع، ويؤكد هذه الحقيقة بالإشارة إلى أن مثل هذه المعتقدات السابقة تحكم الطريقة أو العملية التي نرى بها الأشياء، وبالتالي يشعر الناس أنهم يعرفون شيئاً ما معرفة جيدة، حتى قبل أن يكون لديهم معرفة كاملة ومعتادة بذلك الشيء. ومع قول ذلك فإن الصورة النمطية السلبية تزداد سلبية مع قدرة وسائل الإعلام على تشكيل الحقيقة لدى المتُلقي وذلك من خلال حقيقة مُختلقة تماما ولا تمت للواقع بشيء، وهو منهج أضحي من أدبيات الكثير من وسائل الإعلام في وقتنا الحاضر والتي تسعي دوماً نوع الإثارة لجذب الناس إليها بتزييف الحقائق وتشويهها، ولنا في قناة الجزيرة القطرية مثال واضح لهذا النوع من الإعلام المؤدلج.
ولعله ومن نافلة القول وهو أمر لا يُعتقد بأن هناك اثنين يختلفان عليه وهو أنه ليس هناك دولة من دول عالمنا عانت كما عانت المملكة من الصورة النمطية السلبية والمغلوطة عنها جُملة وتفصيلاً. سعت المملكة ولعقود عدة نحو تغيير هذه الصورة النمطية السلبية عنها وشاركت بإيجابية في أغلب المعارض والمناسبات الدولية للتعريف بها للعالم بالوجه الصحيح، لا بالصورة النمطية المشوهة عنها لدي الكثير في أنحاء العالم والتي عززتها وسائل الإعلام المُضللة والتي لم تألُ جهداً للنيل من المملكة بسبب مواقفها المُناصرة والداعمة للقضايا العربية والإسلامية.
وفي هذا الخصوص تعود بنا الذاكرة لأحد أهم الجهود التي قامت بها المملكة نحو التعريف بنفسها للعالم والتي رعاها وبكل تفاصيلها من ألفها إلى يائها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبالعزيز آل سعود، والذي كان حينها أميراً لمنطقة الرياض والتي قدمها للعالم الخارجي من خلال معرض الرياض بين الأمس واليوم في منتصف الثمانيات الميلادية والذي لاقي نجاحاً غير مسبوق مما جعله -حفظه الله- يقرر تغيير مسماه في مرحلة تالية إلى معرض المملكة بين الأمس واليوم. المعرض الذي جاب عواصم الدول الأوروبية الكبرى إضافة لكل من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا. كيف أثر هذا المعرض بطريقة إيجابية غير مسبوقة على صورة المملكة، رآه الناس بطوابير طويلة ممتدة للولوج إليه أينما حل،ورأيته مُرتسماً على وجه عجوز أمريكية تبادلت معها أطراف الحديث بعد مرور أكثر من عقد ونصف على المعرض وذلك عند صناديق البريد التابعة للمسكن الذي كنا نسكنه بالعاصمة واشنطن، وعندما عرفت بأنني من المملكة استرسلت في الحديث مُشيدة بالمعرض الذي احتضنته العاصمة الأمريكية واشنطن ومدن أمريكية أخرى، وقالت: إنها وعائلتها تغيرت نظرتهما السلبية عن المملكة وبأنها لن تنسى أبداً جمال مُقتنيات المعرض وروعة تنظيمه.
النظرة الثاقبة والمعرفة بثقافات العالم وضرورة تواصلها لتغيير كل الصور المغلوطة عن بعضها البعض وأهمية الثقافة كجسر يربط بين دول وشعوب العالم هي رؤى لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود والتي كانت من بعد توفيق الله من وراء النجاح الباهر لمعرض المملكة بين الأمس واليوم.. نرى هذه الرؤى اليوم ممتدة ومتجددة وبشكل مُتسارع أذهل العالم من حولنا بسرعتها من خلال رؤية المملكة 2030 والتي أوُكلت مهمة تخطيطها وتنفيذها والإشراف عليها لصاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود.
فيما يقارب السنة ونيف فقط تمت إنجازات غير مسبوقة ومذهلة من السماح للمرأة بقيادة السيارة، مروراً بافتتاح صلات للسينما، إلى تمكين المرأة بأن تكون شريكة لأخيها الرجل في تنمية بلادها والترقي لأعلى المناصب وبحرية تنقل تساعدها أن تؤدي الدور المناط بها في تنمية بلادها بكل شفافية وكفاءة وبدون معوقات.. آن الأوان للتخلص منها. هذا ما يخص ما حدث في داخل الوطن من إنجازات رائعة مُلهمة مُفرحة.
ونرى التطور الآخر والذي يمكن وصفه بأنه وجه الضربة القاضية وبمهنية واحترافية لكل ما يتعلق بالصورة النمطية السلبية عن المملكة وهو البدء في إصدار تأشيرات سياحية لمواطني 49 دولة من دول العالم كمرحلة أولى، ثم توسيع إصدارها ليشمل دولاً أخري. هذا القرار الذي جاء في الوقت المناسب والذي تنفتح فيه بلادنا أمام الأسواق والاستثمارات العالمية واكتتاب دولي متوقع لجزء من شركة أرامكو وهي محاور رئيسيه في تنفيذ رؤية المملكة 2030 والتي يعتبر محورها الأساسي هو التخلص من اعتماد الدولة على سلعة النفط الناضبة والمتذبذبة الأسعار كمصدر رئيس لموازنتها.
القرار المدروس الخاص بالبدء بإصدار التأشيرات السياحية سوف يُلغي وللمرة الأولي في تاريخ المملكة وللأبد الأفكار السلبية السائدة عنها بغير وجه حق، وبسبب واحد فقط هو أن الناس بطبيعتهم أعداء ما يجهلونه، وهو الأمر الذي تبدل وسوف يرون بمرأى العين المملكة التي سمعوا عنها الكثير من التشويه والتزييف، وسنرى قريباً كيف كانت الصورة وكيف أضحت من خلال هؤلاء السيّاح.
تزامن إصدار التأشيرات السياحية مع البدء بفعاليات موسم الرياض 2019 والتي بدأت في 11 أكتوبر وتستمر لمدة سبعين يوماً وحتى 15 ديسمبر وبـ 3000 فعالية وبتوقعات أن يحضرها قرابة 20 مليون زائر. بذكر مواسم الرياض فلا بد من الإشادة هنا بهيئة الترفيه ورئيسها معالي المستشار الأستاذ تركي آل الشيخ للجهد الرائع في التنظيم والإعداد المُتقن والذي نقلت لنا وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي صوراً منه للحضور الكبير الذي فاق 60 ألف شخص لحفلة فرقة (BTS) الكورية الجنوبية.
وأكد معاليه في تغريدات له على منصة توتير بأن ثلاثة أيام فقط من فعاليات موسم الرياض حققت مبيعات فاقت 235 مليون ريال وبحضور زاد عن ربع مليون شخص. لعل بوادر ما تم من تفكيك غير مسبوق للنظرة النمطية السلبية عن المملكة هو ما حدث بعد أن عادت الفرقة الكورية لموطنها واسُتقبلت استقبال حافل بتغطية مُكثفة من وسائل الإعلام الكورية توضح امتنان شعب كوريا للمملكة قيادة وشعباً للحفاوة الكبيرة التي لقيتها الفرقة، وهو الأمر الذي جعل الكثير من الكوريين يبحثون في محركات البحث الإليكتروني عن المملكة للتعرف عليها وعلى ثقافتها. علينا تصور ما حدث، حفلة فنية واحدة فقط كسرت جليد مُتراكم لسنين من الأفكار النمطية السلبية، في مثال رائع على مقدرة الثقافة والموسيقي العمل كجسر وكدبلوماسية ناعمة لتحقيق التعاون والتقارب بين الدول والشعوب.