د.فوزية أبو خالد
أحاول أن أصرف نفسي عن الوسوسة بالكتابة في هذا الموضوع الشائك المحفوف بكل أنواع الخفر والحراس بما فيهم تلك الكتيبة الصغيرة المندسة في أدوات الكتابة بالسر عن نفسي، فلا أفلح إلا في نفخ جذوة الإلحاح على لوحة الكتابة وتأجيج مشيئة الكتابة عن الحب على جميع ما قد يعتمل في عقل الكتّاب والكاتبات من مواضيع الكتابة. ولا أستطيع إلا أن أحسد ابن حزم على تصديه لكتابة أطروحة حياته عن الحب وللحب وللغوص في أنواع الحب ودرجاته وتدرجاته وبرده وحرائقه وبحاره وحقوله وطيوره وحباريه ونسائه ورجاله وصمته ونجواه وخسارات الحرمان منه وكنوز الظفر ولو بخيال من خيالاته.
أحاول أن أستكنه سبب هذه الرغبة الصبابية في الكتابة عن الحب في هذه اللحظة المشتعلة برعب الحروب ولواعجها سواء البعيدة عنا وليست بعيدة أو تلك القريبة منا أقرب من حبل الوريد التي نستودع فيها الله حياة عزيزة غالية لأولادنا وإخواننا من جنودنا البواسل على الحد الجنوبي ونرقب فيها بجزع حال شعب اليمن الأبي وهو يذهب ضحية الصراع بين شهوات السلطة وشرعيتها بما لا يقل عن جزعنا على فلذات الأكباد, فلا أجد بين مئات الأسباب واللا أسباب المحتملة والمستدعية الكتابة عن الحب إلا سبباً واحداً يقف خلف الكتابة عن الحب لهذه المقالة بالذات وهو محاولة الكيد لأشباح الحرب وجروحها وفواجعها والسأم منها بكلمة حب.
لا بد من وقف الحروب وليس أقدر من كلمة حب على ترجمة هذا الحلم الحلال كدعوة حرَّى تصعد من قلوبنا لله ليل نهار وكمطلب عادل لكل الشعوب ولكل الدول الرشيدة التي تريد أن تبنى أوطانها فالأوطان لا يبنيها إلا السلام.
فليس إلا الحب الحب الحب يمكن أن يفوز في منازلة الحرب.
فبدون حب العدل لم يكن من يجرؤ على منازلة الظلم والانتصار عليه في أقوى تراجيديات المواجهة غير المتكافئة.
وبدون حب الحرية لم تكن أوطان لتتحرَّر ولا لمهاجرون أن يعودوا على أجنحة الحنين لأوطانهم ولا لصاحب حق أن يخاطر بحياته.
بدون الحب لم يكن لقلوب أن تذوب عشقاً ولا تتوب. ولم يكن لابن سينا أن يكتشف في الطب علماً اسمه الاستشفاء بالحب.
فعن أي حب أريد أن أكتب لو أردت أن أمشي هذا الطريق غير الآهل إلا بالقليل من المغامرين والأقل من المغامرات، بخاصة أولئك المغامرون الذين لا يخفون تعلقهم بطائر الحب وجراح السير على طرقاته الضارية ولا يريدون أن يحتفظوا بوجد البحث وكشوفاته وأسراره حبيساً في ملفات الكمبيوتر ووحشة الأدراج؟!
وعن أي حب لا أريد أن أكتب وأنا المجندة التي لم يجندها أحد إلا الشغف والصبر للبحث عن طيف حب نقاوم به أشباح الحرب وعشوائيات الفقر وجذام المظالم وحميات التطرف والعنصرية بأنواعها من القبلية للمذهبية للأثنية للنوع الاجتماعي للطبقية للمناطقية, وفيروسات كل أشكال الخضوع والبكتيريا المضادة للعقل والعاطفة.
أريد أن أكتب عن الطاقة التحرّرية للحب فأجد قد سبقني
* ابن عربي وابن رشد والخوارزمي وولادة بنت المستكفي وعنترة بن شداد والمعري وشوقي وبيرم التونسي ومي زيادة وعائشة عبدالرحمن وفاتنة شاكر وغازي القصيبي وعبدالرحمن منيف وأميمة الخميس وعبدالعزيز المشري وعبدالله الصيخان وفهد العرابي الحارثي. عدا عن فرنسواز ساجان واليف شافاق ورسول حمزاتوف وولى سوينكا وجون شتينبك وكنزابور أوي وطاغور وسواهم.. فالقائمة تطول بطول التاريخ البشري ومداه الجغرافي وتعدده الثقافي مع توحّده في الحب بتنوّع تجاربه.
ليس هناك حب معين ولا تجربة بعينها عن الحب ما أريد الكتابة عنه. أريد الكتابة عن الحب في أقصى حالات المطلق وفي أدق حالات طاقاته التحرّرية.
* أريد أن أكتب عن حب الأوطان المكتوب على الجبين في لوح الأقدار.
* أريد أن أكتب عن حب تراب الأرض المكون الأولي لحنطة الأحلام.
* أريد أن أكتب عن حب أول سموات لم نتعلم الوقوف إلا لملامسة نجومها وغيومها واكتشاف أسرارها.
* أريد أن أكتب عن حب أول هواء لعبنا معه لعبة الشهيق والزفير الوجودية بما لا نكف عنه ما رفّت عيوننا.
* أريد أن أكتب عن حب مدرستنا الأولى ومعلميها وتلاميذها وحراسها ومساطرها وأقلامها وصباحاتها ونداها وندباتها المتورّدة على وجوهنا كعلامة فارقة أو غمازة لا تمحى ما حيينا.
* أريد أن أكتب عن أول كتاب وقعنا بسببه في عشق القراءة السرمدي، وإن كان كتاب فتوحات محمد ابن القاسم، طه حسين قاهر الظلام أو ابكي يا بلدي الحبيب أو مجلة سمير وسوبرمان وأرسين لوبين أو دونكشوت.
* أريد أن أكتب عن حب الريشة الأولى التي طارت بنا إلى ملكوت كشوفات العالم والذات ولم نشف بعدها من لوثة التحليق والاكتشاف وأضدادهما.
* أريد أن أكتب عن حب الشرارة الأولى التي أشعلت بداخلنا حريقاً أخرجنا من جنة الطفولة إلى جحيم المراهقة.
* أريد أن أكتب عن حب الأمهات الحليبي النقي الشفيف المتضوّع بين الضلوع مهما ابتعدنا وإن رحلت الأمهات.
* أريد أن أكتب عن حب الآباء المشوب بما يشبه رعدة الشتاء ودفئه.
* أريد أن أكتب عن حب الأبناء.. آه من حب الأبناء المائج مع الدم المستقر في جهازنا التنفسي المستنفر في جهازنا العصبي الساكن الصاخب في معابر العقل وفي صميم الفؤاد.
* أريد أن أكتب حب الكرامة معشوق الفقراء والأغنياء. فهذا الحب يجعل الإنسان ملكاً وإن كان لا يملك شيئاً؛ لأن لا شيء يشتري الكرامة فهي ليست بضاعة مثلما لا شيء يسلبها إلا التفريط في حبها.
* أريد أن أكتب عن حب العدل وضرورته كالماء والهواء لعز الدول ولتقدم المجتمعات فلا يزال العدل من علاقة إلا أزالها على مستوى فردي وعلى مستوى جمعي معاً.
* أريد أن أكتب عن حب يحرّرنا من إعاقتنا الجسدية والنفسية ويحرّر أوطننا من الحروب ويحرّرنا من أسباب التخلّف ونحرّره من الفهم التأثيمي للحب ونحرّر به علاقتنا وأنفسنا من كل أشكال السيطرة باسم الحب ومن كل أشكال التعقيد لتلك القيمة الكلمة البسيطة العميقة التي اسمها الحب.