يحتفل الأشقاء في مصر قادة وحكومة وشعباً بذكرى النصر في ذكرى رمضان المبارك- أكتوبر 1973 عندما أثبت الجيش المصري قدرته على تحقيق المستحيل محطما خط بارليف أقوى حاجز ترابي عرفه التاريخ ليتحقق نصر أكتوبر الشهير على العدو الإسرائيلي ذلك النصر المبين الذي خرج من رحمه استعادة مصر لكل أراضيها المحتلة.
بهذه المناسبة التاريخية لم ينس المصريون مواقف الملك فيصل بن عبدالعزيز -رحمه الله- فكانت الإشادة في كل وسائل الإعلام المصري تقديرا لمواقفه الشجاعة ونخوته العربية التي عرف بها تجاه مصر والأمتين العربية والإسلامية.
وأنا أكتب هذه السطور عن أحد عظماء التاريخ، أجد أن الكتابة عنه أمر شاق خاصة عندما تحاول الكلمات أن تسطر بعض مواقفه التاريخية.
فهو نموذج فريد لعطاء القادة العظماء كان صاحب إرادة لا تلين وإصرار لا يقدر وحب للوطن لا تحده حدود. كان نموذجا فريدا يحتذى مثله وتتبع خطاه. وكأنما الأحداث تشحذ حزمه وعزمه وصلابته وتزيده قوة إلى قوة.
شخصية عالية باسقة تتقاصر عنها الكلمات مهما طالت.
أحد مواقف الملك فيصل العديدة موقفه التاريخي من أشقائنا أهل مصر، فرغم الخلاف العميق بين الملك فيصل وعبدالناصر -رحمهما الله- حول قضية اليمن آنذاك، إلا أن الفيصل صاحب الشهامة والنخوة والشجاعة العربية كان أول من وقف بحزم وقوة مع عبدالناصر.
وكان أول الواصلين إلى الخرطوم للمشاركة في المؤتمر، بل إنه اعتبر كلمة الرئيس عبدالناصر هي البيان الصادر عن المؤتمر.. وللفيصل كلمة شهيرة قالها لعبد الناصر خلال المؤتمر:
(يا جمال مصر لا تطلب وإنما تأمر)
وهذه حكمة القادة وأسلوب العظماء.
عبدالناصر الذي كان بالأمس على خلاف شديد مع الفيصل، عانقه الملك فيصل عندما وجد أخاه العربي المسلم في محنة كبرى ونسي الماضي.
إنها قوة الشجاعة والرجولة والنخوة العربية التي اشتهر بها ملك عظيم (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) ظالما ترده عن ظلمه ومظلوما تقف بقوة إلى جانبه لنصرته ضد من ظلمه.
ليس هذا فحسب الفيصل الذي دخل التاريخ من أوسع أبوابه رغم أن بلادنا في تلك الفترة من التاريخ لا يزيد دخلها من النفط على حوالي الدولارين للبرميل وإنتاجها كان قليلا مقارنة بإنتاج اليوم، إلا أنه تعهد بتقديم معونات مالية سنوية مفتوحة لمصر حتى تزول آثار الحرب، واستمرت المملكة في دعمها غير المحدود للشقيقة مصر في النواحي المالية والاقتصادية والعسكرية واللوجستية في حرب الاستنزاف.
وتأتي المرحلة التاريخية الهامة في تاريخ مصر والعرب حرب 1973 التي خطط لها الفيصل مع الرئيس السادات تخطيطا عسكريا وإستراتيجيا ولوجستيا، لم يعرف عنه العدو شيئا، وكانت الاتصالات غاية في السرية العسكرية بين الفيصل والسادات والأسد لتبدأ المعركة في الوقت والزمن المحددين لها، ويتحقق النصر المؤزر.
ولم يقتصر الدعم السعودي على المال بل تعداه إلى الدعم العسكري واللوجستي، فالقوات السعودية شاركت في حرب أكتوبر ضمن الجبهتين المصرية والسورية، بالإضافة إلى مشاركتها بفوج من المدرعات وبطارية مدفعية وفوج المظلات الرابع ومدرعات لواء الملك عبدالعزيز الميكانيكي، وكان عددهم ثلاثة أفواج وبطاريات مدفعية ذاتية، كما قامت بإنشاء جسر جوى لإرسال حوالي 20000 ألف جندي إلى الجبهة، وذلك بالإضافة لأسلحة دعم أخرى.
ولا نذكر الزعيم العالمي الفريد دون ذكر معركة النفط التي قادها وركّعت الدول المناصرة للحرب ضد مصر، فالفيصل صاحب الأيادي البيضاء في دعم صناعة النفط ونقله من نفط رخيص إلى غالي الثمن لا بد من المحافظة عليه.
وعند التأريخ لأهمية قرار الفيصل نجد أن الأوبك رغم انصرام حوالي عشر سنوات من عمرها إلا أنها لم تفعل شيئاً يؤكد أهدافها التي قامت من أجلها، فالنفط الرخيص أصبح متوافراً للدول الصناعية وبأسعار زهيدة جداً، مما جعل الكثيرين يرون أن فرصة الأوبك للصعود انتهت ولم يعد بمقدورها تحدي شركات البترول الكبرى.
لكن مع طلوع فجر معركة عام 1973 بلغت أهمية الأوبك (الثريا) بعد أن كانت عند ميلادها في الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن المنصرم لم تلقَ الاهتمام من الدول الصناعية المستهلك الرئيس للنفط وفي مقدمتها بالطبع الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا وحتى في الصين والهند وغيرها من الدول، ولذا بقي نفوذ شركات النفط الكبرى على مدى اثني عشر عاما، (لكن دوام الحال من المحال) كما يقولون، جاء قرار الملك فيصل لإحياء الأوبك لتصبح أسدا مكشرا عن أنيابه في سوق النفط الدولية، لتنطلق سفينتها لتحديد توجهات الإنتاج والأسعار إلى حد كبير في سوق النفط الدولية، بعد أن قاد الملك فيصل -رحمه الله- استعمال سلاح النفط بقطعه عن الدول التي ساندت إسرائيل في حرب 1973.
وفي خضم عنفوان معركة سلاح النفط وحرب أكتوبر حطت طائرة مبعوث الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر في مطار جدة الذي جاء مسرعا لمقابلة الملك فيصل محاولا إثناءه عن قراره بقطع البترول عن دول الغرب.
وقد وصف كيسنجر الحوار الذي دار مع الملك فيصل في مذكراته قائلا إنه عندما التقى بالملك فيصل في جدّة في محاولة لإثنائه عن وقف ضخّ البترول، رآه متجهماً, فأراد أن يستفتح الحديث معه بمداعبة فقال:
(إن طائرتي تقف هامدةً في المطار بسبب نفاد الوقود، فهل تأمرون جلالتكم بتموينها، وأنا مستعدٌ للدفع بالأسعار الحرة؟!)
يقول كيسنجر: فلم يبتسمْ الملك، بل رفع رأسه نحوي، وقال: (وأنا رجل طاعن في السن، وأمنيتي أن أصلي ركعتين في المسجد الأقصى قبل أن أموت، فهل تساعدني على تحقيق هذه الأمنية؟!)
وإذا كان الملك فيصل رغم إلحاح كيسنجر ورئيسه نيكسون لم يتزحزح عن موقفه بشأن معركة النفط وأبقى على سريان قراره الشهير دعما للحق، بل زاد من دعمه العسكري والمالي واللوجستي لجبهتي القتال في كل من مصر وسوريا، مما جعل السادات يطلق عليه لقب بطل المعركة.
هذا نابع من قوة وعزيمة وإرادة الفيصل الفولاذية. وهذا ما جعله يتبوأ مقدمة عظماء التاريخ الذي سطر اسمه بأحرف من نور، كيف لا وهو يعد أمة في رجل استطاع أن يجعل الجميع يدور في فلك.
وهذه هي المملكة وقادتها فالتاريخ يفتح صفحاته لمواقف قادتها وشعبها.
فالملك فهد -رحمه الله- اقترن قرار تحرير الكويت باسمه. والملك عبدالله -رحمه الله- كان موقفه تاريخياً لدعم ثورة 30 يونيو الذي واجه الغرب والشرق صراحة في دعمه لمصر وأهلها.
ويأتي قرار خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز التاريخي لدعم الأشقاء في اليمن، دعما للشرعية ليعلن إعادة الأمل، ليسجل التاريخ مواقف عظيمة لقادة دولة الحرمين الشريفين.
هذه المواقف التاريخية الشهيرة، بدأها الملك فيصل وتابع إخوانه من بعده ليتخذوا مواقف عظيمة استمرارا لموقف الفيصل في أكتوبر وهي مواقف لا تقل عن ذلك الموقف.
وسيبقى التاريخ يذكر الفيصل ويعلو اسمه فوق كل المواقف في حرب أكتوبر وصراع النفط. وسيبقى اسمه يعلو فوق كل الأسماء كلما ذكرت سلعة النفط التي أحياها بعد أن كانت في نوم عميق. وسيبقى اسمه لامعا كلما ذكرت معركة أكتوبر المجيدة في شهر رمضان المبارك لما قدمه من دعم غير محدود في تلك الحرب التي زعزعت قوى العدو وقهرت كبريائه التي كان يعلن أنها عصية على الهزيمة. وستبقى مواقف العظماء في ذاكرة الأوفياء. ولا يمكن أن يمر حدث نصر أكتوبر دون ذكر لاعب رئيسي في تلك المعركة الكبرى وقاد بحكمته ونفاذ بصيرته كل المواقف لدعم مصر وسوريا في المعركة الكبرى.
سيبقى اسم الفيصل البطل صاحب مواقف القوة والأيادي البيضاء الاسم اللامع فوق كل الأسماء. ومهما كتب من كتب أو أسفار أو مقالات عن الملك فيصل هذه الشخصية التاريخية الفريدة التي كانت دائما داعما لقضايا العرب والمسلمين والسلام والاستقرار العالمي لم ولن توفيه حقه فلمحبيه العتبى حتى يرضوا.
والله ولي التوفيق،،،
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة
dreidaljhani@hotmail.com