أ.د.عثمان بن صالح العامر
مشكلتنا الحقيقية، ومصيبتنا العظمى أن تصفية الحسابات بين بَعضُنَا البعض لا تنتهي في هذا الدار (الدنيا)، بل هناك في الدار الآخرة ستفتح الملفات، وتنشر الصحف، ويأخذ كل مظلوم ممن ظلمه أو أخطأ عليه حقه كاملاً غير منقوص. والحاكم العدل الذي سيفصل بين الخلائق، ويعيد الحقوق لأصحابها في ذلك اليوم المشهود يوم الصاخة، القارعة، الغاشية، هو الله عز وجل، والشهود على كل ما فعلناه في غيرنا أطرافنا، والميزان الرباني يزن كل شيء حتى مثاقيل الذر، والمقابل الحسنات والسيئات، وكل شيء فعلناه أو قلناه أو حتى هممنا به وحدثنا أنفسنا فيه ونويناه في كتاب {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}.
ولخطورة الأمر، وعظم شأنه، وشدة وقعه على الإنسان، كان من نبي الرحمة المهداة -الحريص على أمته- الإرشاد إلى ما فيه السلامة والنجاة في هذا الأمر بالذات، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (مَنْ كَانتْ عِنْدَه مَظْلمَةٌ لأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ فَلْيتَحَلَّلْه ِمِنْه الْيَوْمَ قَبْلَ أَلَّا يكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمتِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سيِّئَاتِ صاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ) رواه البخاري.
لنشيع بيننا في وطننا متراص اللبنات متحد الصف (ثقافة التحلل من بَعضُنَا البعض)، ولا ننتظر لحظة دفن أحدنا بعد موته، حتى نسمع في المقبرة من ينادي بالناس (أحلوه) وهم يرفعون الصوت مستجيبين لهذا الطلب (بحل.. بحل).
من القصص التي سمعتها في هذا الباب، يذكر أحد الموظفين في إحدى الإدارات الشرعية (أن رجلاً اتصل على تلفون مكتب أحد المشائخ -وكنت جالساً عنده- وكأنه يستفتيه ويسأله،
- قال المتصل: يا شيخ عندما كنّا صغاراً اختبأت لشخص في سني أو يكبرني قليلاً، فلما مر من عندي باغته وغدرت به بضربة أطاحت به الأرض، ثم هربت ولَم يرني أحد، واليوم أريد أن أستحل منه قبل أن أموت أو يموت هو وقد جاوز الستين من عمره، فكيف أفعل، انصحني يا شيخ؟.
- قال الشيخ: اذهب إليه واستحل منه إن كان حياً فهي فرصتك قبل أن يكون يوم الحساب فيأخذ من حسناتك وتعطى له، وربما فنيت حسناتك فأخذ من سيئاته فطرحت عليك ثم طرحت في النار والعياذ بالله.
- رد السائل: يصعب هذا الأمر وقد لا يتقبل مني الاعتذار وربما لا يحلني.
- تفهم الشيخ الوضع الحرج الذي قد يواجهه إذا ذهب بنفسه، فقال له: ابعث له من ينقل رسالة الاعتذار هذه، واطلب منه أن يحلك.
- سكت السائل قليلاً ثم قال للشيخ: لو كنت مكانه تتوقع تحلن؟.
- رد الشيخ: نعم، ولم لا، بما أنك شعرت بتأنيب الضمير وجئت متعذراً فحقك القبول.
- قال السائل: أنت المقصود يا شيخ، فوالله إنني نادم على ما فعلت بك، ولا يرتاح ضميري حتى تحلني.
- ضحك الشيخ ثم قال: والله لا أذكر ما تقول لكن تراك بحل.
وانتهت المكالمة ولَم يسأل عن اسمه ولا متى كان هذا الحدث ولا أين.
كلنا ذلك الإنسان الذي سخر، اغتاب، أخذ حقاً لآخر من غير وجه صحيح، لعن، سب، اتهم، ضرب، كذب، سرق، عرّض بشخص في تويتر تحت اسم مستعار، تهجم على آخر من أجل مصلحة شخصية بدعوى المصلحة العامة زوراً وبهتاناً، قال أو نقل أو شهد أو جحد أو... فالدنيا بين مد وجزر، والصراع فيها على زخارفها لا يخفى ولأسباب لا عد لها ولا حصر -كما هو معلوم- ونحن في النهاية بشر ولسنا ملائكة (وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون) وشرط قبول التوبة فيما هو متعلق بأحد من الناس أن يستحله ويسمح له عن طيب نفس وهو بكامل قواه العقلية ومداركه البشرية، إذ أن (حقوق الآدميين مبنية على المشاحة خلاف حقوق الله فهي مبنية على المسامحة)، ولكون الأمر كذلك فإنني أتطلع وأتمنى مثل ما يتمنى غيري كثير في هذا الوطن المبارك المعطاء المملكة العربية السعودية أن تشيع المسامحة بين الناس خاصة أن الله عز وجل قال عن من قبل الاعتذار ممن جاء متحللاً {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}، ومن أكرم من الله عز وجل، ومن أجود وأعظم عطاء من الرب الرحيم سبحانه وتعالى، دمتم بخير وتقبلوا صادق الود، والسلام.