عثمان الصالح
من المآثر الحميدة للملك سعود بن عبدالعزيز -رحمه الله- وما أجمل مآثره وشواهده ومنجزاته العمرانية والتنموية في بلادنا، إنشاء أولى الجامعات وبواكير التعليم العالي في بلادنا، ولم يكن هَمُّه منصباً على حدود الوطن الغالي بل كان يريد خدمة العالم الإسلامي والعربي في تعليم ديني عالٍ مبني على الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح، وكانت الأمة آنذاك في أشد الحاجة لهذا الصرح العلمي لاسيما أن معظم الدول العربية والإسلامية كانت حديثة عهد بالتحرر من الاستعمار الذي حارب الدين واللغة العربية، وشجَّع الدراويش ومشايخ الطرق المنحرفة وقَوَّى شوكتهم على حساب العلم الصحيح والمنهج السليم.
وقبل ستين عاماً أدرك الملك سعود -طيب الله ثراه- هذه الحاجة، فأمر بإنشاء الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة لتقبل أبناء العالم الإسلامي من مشارق الأرض ومغاربها وحتى طلاب الأقليات المسلمة، وتقديم كل المستلزمات لهم منذ قدومهم إلى مغادرتهم وضمان الإعاشة والسكن وقبلها التعليم المجاني وصرف مكافأة مجزية للطلاب. وجاء في كلمة للملك سعود - طيب الله ثراه - في هذه المناسبة: «لقد رأيت من واجبي أن أخدم هذين الحرمين الشريفين، وأن أبدأ العمل في نشر الدعوة الإسلامية في أرجاء المعمورة، فأمرتُ بإنشاء جامعة إسلامية في المدينة المنورة التي هي مأوى الرسول -صلى الله عليه وسلم، وهيأت لها من الأسباب والوسائل ما يكفل لها أداء الرسائل السامية المرجوة منها، فاستقدمت عدداً من علماء المسلمين من بعض الأقطار الإسلامية ووضعوا لذلك برامج ونظماً ومناهج، وستضم هذه الجامعة طلابًا من سائر أنحاء العالم... من إخواننا الإفريقيين والآسيويين الذين يتشوقون لمعرفة الإسلام في منابعه...».
وتوالت عناية ولاة الأمر ملوك هذه البلاد بالجامعة ورعوها حق الرعاية، وتضاعف أعداد الطلاب في كل عام حتى عامنا الزاهر، وبلغ عدد الخريجين من الجامعة منذ تأسيسها ما يزيد عن 75 ألف خريج يمثلون 200 دولة وأقليم، فيما وصل عدد الدارسين حالياً إلى ما يزيد على 16 ألف طالب يدرسون في الجامعة يمثلون 130 بلداً من بلدان العالم. وقد تحقق -ولله الحمد- الفائدة المرجوة من خريجي الجامعة الإسلامية، وأصبحوا يتقلدون وظائف مهمة في بلدانهم، فمنهم الوزير والسفير والمفتي والمعلم والداعية. وأدرك أبناء العالم الإسلامي الحاجة الشديدة إلى الدعاة الأمناء في بلدانهم، وقد فقهوا -ولله الحمد- الإسلام ودرسوه من منابعه الصافية كتاب الله الكريم والسنة النبوية المطهرة على أيدي مشايخ وعلماء أفاضل من أبناء هذا البلد المبارك، ومن نخبة من المعلمين والأساتذة والمشايخ في العالم الإسلامي.
ولم يقف جهود المملكة العربية السعودية على إنشاء الجامعة الإسلامية فحسب بل دعمت التعليم الإسلامي في الخارج من خلال المدارس والمعاهد والجامعات التي يتم إنشاؤها بالكامل أو المساهمة في بنائها ودعمها، وقد هيأت هذه الجهود -بعد توفيق الله- المساهمة في تغطية حاجة التعليم الإسلامي، والدعوة إلى الله من الدعاة والمدرسين الذين حملوا العلم الشرعي، والمؤهلات المهمة والمطلوبة لإرشاد الناس وتوجيههم وتعليمهم، وما زالت الحاجة قائمة لمضاعفة الأعداد لتغطية الحاجة وسد الأبواب أمام أصحاب الفرق الضالة الذين سعوا في احتواء أبناء العالم الإسلامي وإغرائهم بالدراسة في كلياتهم وجامعاتهم أو التغلغل والتمدد في مرافق التعليم الإسلامي في دول العالم.
والجامعة الإسلامية وقد أتمت عامها الستين على تأسيسها وإنشائها فأحسب أن لها أثرًا كبيرًا شاهدته بأم عيني خلال تجوالي في أكثر من 80 بلداً زرتها من اليابان والصين شرقاً، وحتى البرازيل والأرجنتين غرباً، ومن شمال الكرة الأرضية وحتى جنوبها، وكان لخريجي الجامعة اليد الطولى في التعليم والدعوة في بلدانهم، وكانت الجامعة ولا زالت غير قادرة على احتواء جميع ما يرد إليها من طلبات للالتحاق بها، ومما يزيد على نجاح مساعي الجامعة أنها تعلم أبناءها المنهج الوسطي المعتدل بلا غلو ولا تطرف، ولا إفراط ولا تفريط، حيث يكتسب الطالب إلى جانب الأخلاق الفاضلة العلم الشرعي الرصين والثقافة الإسلامية العالية، ويكتسب سمات طالب العلم الشرعي، والتكوين الأصيل لمن أراد أن يسير في ركب العلماء مع الاعتزاز بالإسلام والعزيمة على إعلاء كلمة الله ومعرفة أساليب الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، بعد التفقه في الدين والبعد عن الفئوية الضيقة والهوى إلى سعة الإسلام ورحابته. ولم تقف جهود الجامعة عند تعليم طلابها العلم الشرعي والمهارات الدعوية، بل شملت ذلك بتقديم برامج ودورات تدريبية في الإدارة والحاسب واللغات وبالمجان للرفع من المستوى الثقافي والمهاري لطلابها وتأسيس الطالب أكاديمياً بالعلوم الشرعية الأصيلة والتربوية الحديثة.
ونحن نسعد بمرور ستين عاماً على إنشاء الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، فإني أتمنى من الجامعة ومسؤوليها تبني المقترحات التالية:
- إقامة مؤتمر عالمي على هامش المناسبة ويُدعى إليه أبرز خريجي الجامعة الإسلامية إلى جانب المسؤولين عن التعليم والدعوة في العالم الإسلامي.
- تسمية قاعة المحاضرات الكبرى أو المكتبة العلمية الكبيرة في الجامعة باسم الملك سعود - رحمه الله.
- كتابة رسائل ماجستير ودكتوراه في الدعوة عن جهود الملك سعود - رحمه الله - في الدعوة إلى الله والعمل الإسلامي في الداخل والخارج، ولا سيما أن الجامعة من غرسه المبارك إلى جانب رابطة العالم الإسلامي، وجهوده في دعم الدول العربية والإسلامية للتخلص من بؤر الاستعمار.
- تخصيص قاعة باسم الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله.
* آمل من أمانة المدينة المنورة أن تسمي الشارع الذي يربط الجامعة الإسلامية بالمسجد النبوي باسم شارع الملك سعود أو طريق الملك سعود تقديرًا ووفاءً لجهوده في طيبة الطيبة بوجه عام، وفي المسجد النبوي والجامعة الإسلامية بوجه خاص.