عبدالله بن علي الغامدي
في هذا المقال، لست واثقًا من أني سأنال عين رضا شريحة ليست بالقليلة من موظفي الدولة الذين يجدون في ميزانيات التدريب ملاذًا آمنًا يستجمون تحت ظله هرباً من جحيم الصيف. ولو محصوا المقال لوجدوا أني لا أعنيهم، بعد أن فرطت سبحة التدريب وأهدرت مخصصاته وتلاشى أثره في بيئة العمل، إنما أعني الجهات الرقابية للبحث في جدوى ميزانيات التدريب التي تنفقها الدولة بسخاء ومن دون عائد أحيانًا.
لم ينتعش سوق تجار شنطة التدريب كانتعاشه في العشر سنوات الماضية. أصيب التجار بالهوس عندما نجحت خططهم في التسرب داخل منظومات التدريب المعتمدة العالمية الناجحة. اقتحموا هذا المجال ليس بقوة محتوى الدورات التي يقدموها بل بتواضع متطلباتنا التدريبية، وليس عن ذكاء منهم بل عن سذاجة منا. لقد نجحوا في إيجاد بيئة للدورات والتلاعب بمسمياتها وتفخيمها والتفنن في إغراء الذين لا يهمهم المحتوى بقدر ما يهم مدة الدورة لغرض الانتداب، وبعدها الجغرافي لغرض التذاكر، وأخيرًا الجاذبية السياحية لمكان عقد الدورة وتوقيتها.
أحيانًا ينجو القطاع الخاص من شرك ذلك إلا أنه يستسلم في آخر المطاف لعدم وجود جهات تدريب بديلة ولصعوبة تقييمها وضعف الرقابة عليها. أما القطاع الحكومي فغارق إلى هامته في ذلك بعد أن جُرّد التدريب من معانيه وأهدافه وتحول بقدرة قادر إلى محطات ترفيه لا يستنكر الموظف والمسؤول ضعف العائد المعرفي ولا يدركون أثره السلبي على بيئة العمل.
وسواء كانت جهات التدريب التجارية ذات جودة أو لم تكن، فبيت القصيد هو الهدر المالي المنظم لميزانيات التدريب الحكومية، ولكي أكون دقيقاً فانعدام أثر التدريب على الأفراد والمنشآت والتمادي في تعزيز مخصصات التدريب في الميزانيات السنوية دون وجود مؤشرات أداء تقيس العائد من التدريب وانفلات الدوائر الحكومية من المساءلة يجعلنا أمام سؤال كبير مفاده متى تحكم القبضة عليه فتستثمره فيما ينفع.
لن نغمض أعيننا عن الفراغ الذي أحدثه غياب معهد الإدارة العامة بميزانياته العتيدة المخصصة للتدريب وعجز المعهد عن القيام بدوره في تغطية هذا الجانب، فهو الجهة الرسمية المخولة والمسؤولة عن تدريب موظف الدولة وتطويره بموجب الفقرة الأولى من المادة الثالثة من نظام المعهد، والتي تنص على مسؤولية المعهد عن «رفع كفاءة موظفي الدولة وإعدادهم علمياً وعملياً، لتحمل مسئولياتهم وممارسة صلاحياتهم، على نحو يكفل النهوض بمستوى الإدارة ويدعم قواعد التنمية الإدارية». إن تنصل معهد الإدارة من تلك المسؤولية (بعلم أو من دون علم) هو في الواقع الشرارة التي أعطت الجهات الحكومية الإذن أن تتولى تدريب موظفيها بنفسها، فأنشئت إدارات التدريب وأحدثت الوظائف وخصصت الميزانيات.
إن استحداث بندا للتدريب في ميزانيات الجهات الحكومية يضع علامة استفهام كبيرة على وجوده ويؤكد ازدواجية الصرف كونها جميعها محسوبة على أنها صرفت بمبرر واحد هو تدريب موظف الدولة. أستطيع أن أجزم لو جمعت الأموال التي تصرفها الدولة على تدريب موظفيها من المنافذ كافة لكفت لإنشاء أكاديميات تدريب محلية وعالميه على أرقى المستويات ولأصبحت ملاذاً لتدريب موظفي القطاع العام والخاص داخليًا وخارجيًا وبمستويات علمية وعملية عالية الجودة، ولظهر الأثر الإيجابي جلياً على أداء الأجهزة الحكومية بدلاً من ارتباكها عند قيامها بهذا الدور بالغ الحساسية.
معايير قياس العائد من التدريب لم تعد تقاس بعدد ساعات التدريب السنوية اللازمة للموظف حسب المعايير العالمية، ولا لاستقصاء الحاجة لمعارف التطوير اللازمة للإدارات حسب مهامها وواجباتها واستراتيجياتها، ولا لغرض سد الفجوة الناجمة عن ضعف أداء الأفراد والاستثمار فيهم كأصول لتحسين جودة المسارات الوظيفية، ولا للاطلاع على المستجدات العلمية العالمية لمواكبتها والتنافس على استنساخها وتطبيقها للرفع من مستويات بيئة العمل. كل ذلك أصبح تنظيراً بعد أن تحولت مقاصد التدريب من استثمار في رفعة العقول البشرية إلى ترفيه.
التدريب من دون قياس العائد منه هو بمثابة الجعجعة التي لا تخلف إلا رماداً تذروه الرياح، وما لم توضع استراتيجيات ومعايير لقياس الأثر ومعالجة القصور والمحاسبة عن النتائج فلن يُحقق التدريب مقاصده ولن يوقف هدر المال والجهد والوقت.