د.عبد الرحمن الحبيب
الغرض الرئيسي من قانون حماية الملكية الفكرية هو تشجيع الإبداع، لأنها تمكِّن المبدعين من كسب الاعتراف المعنوي والاستفادة المادية من إبداعاتهم، ومن ثم توفر بيئة الابتكار وتسهم في التقدم التكنولوجي للدولة ودعم اقتصادها. المفارقة الفادحة، أن صرامة هذه الحماية تعيق تدفق المعرفة وانتشارها، ومن ثم تعرقل البيئة اللازمة للابتكار.
إذن، ثمة حاجة للموازنة بين هذه الحماية بحيث تكون قوية بما يكفي لتشجيع إبداع المنتجات الفكرية ولكن ليست شديدة لدرجة تمنع اتساع استخدامها. تلك الموازنة تتضمن حاجة الدول النامية لتقليد واقتباس مخترعات الدول المتقدمة لدرجة لا تعد معها تلك العملية سرقة. هذا هو محور التركيز الأساسي لقانون الملكية الفكرية الحديث، ويمثل حالياً أحد أكبر الإشكالات في الصراع الاقتصادي الجاري بين أمريكا والصين، ولن يهدأ هذا الصراع ما لم يتم الاتفاق على حل هذه المعضلة.
أمريكا تتهم الصين بسرقة اختراعاتها ومبتكراتها التكنولوجية والعلمية وأسرارها التجارية وتقليد منتجاتها؛ وتضغط عليها لتحسين حماية الملكية الفكرية، وتفرض عليها الرسوم الجمركية كعقوبة على هذه المخالفات. «السرقة» الصينية للملكية الفكرية كلفت أمريكا ما يصل إلى 600 مليار دولار سنوياً وفقاً لبعض التقارير (فورين بولسي). هذا الرقم مرشح للمضاعفة مع تنامي اعتماد الاقتصاد على الاختراعات الرقمية والتكنولوجية. فما المقصود بالملكية الفكرية، وكيف بدأت، وإلى أين ستتجه؟
يقصد بالملكية الفكرية إبداعات العقل من اختراعات ومصنفات أدبية وفنية وتصاميم وشعارات وأسماء وصور مستخدمة في التجارة، إلا أن الطبيعة غير الملموسة للملكية الفكرية تمثل صعوبة في حمايتها عند مقارنتها بالملكية التقليدية (كملكية الأرض والبضائع المادية)، إذ يمكن الاستيلاء عليها دون عناء، لأن منتِج المعلومات أو الأدب لا يمكنه عادةً القيام بالكثير لمنع المشتري الأول من تكرارها، وبيعها بسعر أقل.
المفهوم الحديث للملكية الفكرية ظهر في إنجلترا أواخر القرن السابع عشر، وبدأ الاستخدام القانوني لمصطلح «الملكية الفكرية» بالقرن التاسع عشر، ثم أصبحت الملكية الفكرية شائعة في غالبية النظم القانونية بالعالم مع نهاية القرن العشرين، إلا أن الدول تختلف في مدى هذه الحقوق ودرجة حمايتها. والآن، تمثل الملكية الفكرية مع الذكاء الاصطناعي ذروة المنافسة بين أمريكا والصين.
في أمريكا يتفق الديمقراطيون والجمهوريون على اتهام الصين بعدم الالتزام بحماية حقوق الملكية الفكرية، ورغم أن هذا الاتهام صحيح، إلا أن مطالب واشنطن غير واقعية، كما يقول الباحثان يوكون هوانغ وجيريمي سميث (مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي)؛ فالتاريخ يخبرنا بأن نكون حذرين، لأن الدول لا تسن أنظمة قوية لحقوق الملكية الفكرية إلا بعد تمكنها من الابتكار في الداخل وتحل ابتكاراتها محل الاعتماد على المعرفة الخارجية، لتصبح حماية حقوق الملكية الفكرية مطلباً داخليا.
ففي أمريكا مثلاً، فإن نظام حقوق الملكية الفكرية (حقوق التأليف والنشر) الذي بدأ عام 1790، لم يمنح أي حماية للمصنفات الأجنبية. بل إن أمريكا نفسها كانت متهمة بأنها رائدة على مستوى العالم في انتهاكات حقوق الملكية الفكرية أثناء بدايات فترة التصنيع فيها بالقرن التاسع عشر. هذه حقيقة مغفلة بالخطاب الحالي، كما يقول الباحثان. وأشهر مثال، رجل الأعمال فرانسيس لويل الذي ساعد في إطلاق الثورة الصناعية للولايات المتحدة من خلال نسخ وتكييف صناعة النسيج البريطانية، وهي واحدة من أكثر الاختراعات تأثيراً بالقرن التاسع عشر؛ ولم يدرج القانون الأمريكي حماية الملكية الفكرية للأجانب إلا عام 1891م.. أي بعد أن أصبح بأمريكا وفرة في الاختراعات والابتكارات، وعندما بدأ أصحاب المصلحة المحليون المطالبة بتعزيز القوانين الأمريكية لحماية مخترعاتهم.
تاريخياً، تميل اقتصادات الأسواق الناشئة سريعة النمو إلى الاقتباس من الآخرين حتى تصل إلى مستويات دخل أعلى. على سبيل المثال، قبل عقود، كانت كل من اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان تنتهك بعض مواد نظام حقوق الملكية الفكرية الأمريكي إلى أن وصلت إلى إجمالي الناتج المحلي للفرد بين 20 - 25 ألف دولار.. وعلى نفس الطريق مضت الصين، ففي التسعينات كانت سرقة الملكية الفكرية متفشية فيها، رغم ظهور قانون براءة الاختراع عام 1984، إذ كانت ترفض مفاهيم الإنجاز الفردي في ظل المفاهيم الشيوعية. ثم تم تنقيح قانون براءات الاختراع كجزء من انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001. حالياً تتزايد جهود الصين لتشجيع الابتكار المحلي ودعم القطاعات الاستراتيجية مع الضغط على الشركات المحلية التي تحصل على تكنولوجيات من الخارج، مقابل تنمية القدرات المحلية على الابتكار، حسب هوانغ وسميث.
الزبدة، أن الدول النامية في بداية صعودها الاقتصادي ومن أجل تقدمها التكنولوجي بحاجة أولية لامتلاك المعرفة عبر نقل أو اقتباس أو نسخ أو تقليد ابتكارات الآخرين بدلاً من الاختراع، فلا تركز أنظمتها على حماية حقوق الملكية الفكرية. هذا يعتبر في أنظمة حماية حقوق الملكية الفكرية «سرقة»، بينما يعتبره الاقتصاديون ضرورة طبيعية.. وبين هاتين الحالتين المتناقضتين يظهر الصراع الأمريكي - الصيني في ذروته ومعه حمى المنافسة التكنولوجية على الذكاء الاصطناعي الذي ستبدو معه الحرب التجارية التقليدية شيئاً من الماضي.. كتب الخبير الاقتصادي تشي لو: «ستنتهي الحرب التجارية عاجلاً أم آجلاً، لكن الحرب التكنولوجية الباردة ستستمر».