حمّاد السالمي
* هم ثلاثة أصدقاء أحبّة، أتحدث عنهم دون علم منهم؛ لأن ما سوف أقوله عنهم هو أنموذج مشرّف؛ يصلح أن يُحتذى ويُقتدى. إن ما أقوله هنا ليس سرًّا؛ بل إن آلاف الناس يعرفون هذا عنهم؛ ويشيدون بهم في كل مجلس، ويدعون- وأنا معهم- أن يمد الله في أعمارهم، وأن يكثر من أمثالهم.
* هم حسب أعمارهم: (سالم بن سليّم القِثامي)، و(مقبول بن فرج الجُهني)، و(سلطان بن عبد الرحمن المعمّر). هؤلاء الأعلام في أوساطهم نذروا أنفسهم للتطوع في خدمة الناس، وقضاء حوائجهم. يسعون بالمعروف عند أهل المعروف من أجل فقير أو يتيم أو كبير أو صغير أو عديم حيلة، لا يرجون من وراء ذلك أجرة، وإنما أجر ومثوبة. إن السعي بالمعروف لخدمة من ضاقت بهم السبل لا ينحصر في مال أو صدقة، ولكن التوسط لتحريك معاملة، أو السعي لفك معضلة، أو العمل لدفع مضرة، أو الصلح في خصومة.. هذا كله مما يؤنس ويفرح ويسهم في خيرية المجتمع، ويدعم توجه إدارات وقيادات لتسهيل مطالب الناس، وتحقيق مصالحهم. هذا بالضبط ما ينوء بحمله هؤلاء المواطنون الثلاثة، الذين هم نموذج فريد من بين عشرات وآلاف من مثلهم في مجتمعنا الطيب. أعرف ونعرف الكثير غير هؤلاء، ونجهل الأكثر، ونكتب ونتحدث عن هؤلاء ومثلهم؛ لكي يزداد عدد الكرماء بجاههم في حياة الناس. ليس الكريم كريم مال فقط، ولكن كريم الجاه أبرز وأظهر في كثير من المواقف. إن إشادتي بما عرفت وأعرف عن هؤلاء الكرماء هو من الخير الذي قال فيه الحُطيئة:
مَن يَفعَلِ الخَيرَ لا يَعدَم جَوازِيَهُ
لا يَذهَبُ العُرفُ بَينَ اللَهِ وَالناسِ
* ماذا أقول أكثر عن ثلاثة الكرم هؤلاء..؟ ثلاثتهم لم تشغلهم وظائفهم وحياتهم عن خدمة الآخرين ممن يعرفون وممن لا يعرفون. تميزوا بخاصية الكرم هذه؛ حتى لازمت من تقاعد منهم من عمله الوظيفي، ثم تفرغ لوظيفة أخرى تطوعية، هي مساعدة طالبي المساعدة، في تيسير ما تعسر من أمور، وتحقيق ما تعطل من حاجات هنا أو هناك. فهذا القثامي (أبو سلمان) -وهو متقاعد وظيفيًّا- يخرج من داره صباحًا مصحوبًا بأوراق وملفات، يراجع هذه الإدارة أو تلك عن هذا وذاك من طالبي الخدمة دون مقابل. يعود ظهرًا فيتصل به أحدهم من طالبي الخدمة، فيلبس من جديد، ويعود للركض والعمل التطوعي الذي هو قمة الكرم في هذا العصر.
* مثل القثامي الجهني (أبو خالد). كان من أيام عمله في الوظيفة واسطة خير، وعامل نجاح في قضايا تتعطل وتتأخر لسبب أو آخر، وما إن تقاعد حتى تفرغ لهذا العمل الذي يخدم شريحة عريضة من المجتمع، أولئك الذين تضيق بهم السبل عادة؛ فلا يعرفون كيف يتصرفون، ولا كيف يأخذون حقهم. لم تتوقف خدمته التطوعية عند حدود منطقته ومدينته، لكنه يسافر برًّا وجوًّا لإنجاز أمر يهم من يقصده ليلًا أو نهارًا في خدمة تهمه.
* ثم ماذا أقول عن العقيد سلطان بن معمّر (أبو عبد الرحمن)، ابن الأديب الأريب أستاذنا (عبد الرحمن المعمّر). منذ أن عرفت أبا عبد الرحمن وهو ناذر نفسه لحل العقد المستعصية لمن يعرف ومن لا يعرف، من أولئك الذين يصطدمون بعقبات تعيق تحقيق مطالبهم. كان -وما زال- نجدة ملهوف، وصلة معروف، لا يعرف التنصل من طلب قط.
* إن السعي في قضاء حوائج الناس، واصطناع المعروف، باب واسع، يشمل كل القِيم المعنوية والحسية التي حثنا عليها ديننا، وهو من الأخلاق الإسلامية العالية الرفيعة، التي ندب إليها الإسلام، وجعلها من باب التعاون على البر والتقوى. قال تعالى: ... وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ . وقال ابن القيم - رحمه الله -: «إن في قضاء حوائج الناس لذَّة لا يعرفها إلا من جرَّبها، فافعل الخير مهما استصغرتَه؛ فإنك لا تدري أي حسنة تدخلك الجنة». إن التوسط للناس وبالناس ليس هو النفع المادي فقط، ولكنه يمتد ليشمل النفع بالعلم، والنفع بالرأي، والنفع بالنصيحة، والنفع بالمشورة، والنفع بالجاه، والنفع بالسلطان.. فالناس، كل الناس، لا يستغني بعضهم عن بعض، علا شأنهم أو دنا. وكمال قال أبو العلاء المعري:
الناس للناس من بدوٍ وحاضرة
بعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خدمُ
* إنَّ خدمة الناس وقضاء حوائجهم هي سنام الخيرية المجتمعية، وهي من أنبل القيم الإنسانية؛ فقد كان العرب -وما زالوا- يمجّدون هذه الخصال العظيمة في أشعارهم، ويذكرونها في أمثالهم وحكمهم.. قال أبو العتاهية:
اقض الحوائج ما استطعت
وكن لهمِّ أخيك فارج
فلخير أيام الفتى
يوم قضى فيه الحوائج
* ومن الشعر العربي الذي جسَّد هذه المعاني الجليلة السامية للمعروف بين الناس في صور ناطقة نجد هذه الأبيات البليغة التي تنسب إلى الإمام الشافعي:
الناس للناس ما دام الوفاء بهم
والعسر واليسر أوقات وساعات
وأكرم الناس ما بين الورى رجل
تُقضي على يده للناس حاجات
لا تقطعن يد المعروف عن أحد
ما دمت تقدر؛ والأيام تارات
واذكر فضيلة صنع الله إذ جعلت
إليك.. لا لك عند الناس حاجات
قد مات قوم وما ماتت فضائلهم
وعاش قوم وهم في الناس أموات
* ومثل الشافعي في هذا المعنى أبو الفتح البستي في هذه الدرة الحكمية حيث يقول:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبَهُمُ
فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ
وكُنْ على الدّهرِ مِعْوَانًا لذي أملٍ
يرجو نَداكَ فإنّ الحُرَّ مِعْوانُ
من كان للخير منّاعًا فليس له
على الحقيقة إخوانٌ وأخْدانُ
وكذلك:
المرء يُعرف فِي الأَنَامِ بِفِعْلِهِ
وَخَصَائِل المَرْءِ الكَرِيم كَأَصْلِه
* وخصال المرء الكريم كأصله. وهذا ما ينطبق على الثلاثة الأعلام بين الأنام: (سالم القثامي، ومقبول الجهني، وسلطان بن معمّر). حيا الله هذه الخصال والأفعال، وحيا رجالها الأبطال، وأكثر من أمثالهم في مجتمعنا.. مجتمع الفضيلة والخير والكرم.