.د.عبدالله بن محمد الشعلان
حتى نتعرف على موقف القرآن الكريم من الشعر والشعراء فلا بد من حصر الآيات التي تطرق إليها القرآن عن الشعر والشعراء. لقد ورد ذكر الشعر في القرآن لأول مرة في سورة ياسين في قوله تعالى: «وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ» (69)، فتتضح في هذه الآية الكريمة مهمة الرسول عليه الصلاة والسلام بأن الله بعثه مبشرًا ومنذرًا من خلال معجزته بآيات بينات في القرآن الكريم، وقد تعجّب عليه الصلاة والسلام من صدود الكافرين وإعراضهم عن القرآن والإيمان بما جاء به لاحتجاجهم بأنه شعر، كما يبين سبحانه وتعالى في هذه الآية أيضًا أنه لا ينبغي لمحمد عليه الصلاة والسلام أن يتعلم الشعر حتى يوقن الكافرون أنه لا صلة بين ما يوحى لرسوله وبين الشعر، والشعر كما لاحظه المفسرون لا يخلو من زخارف ومحسنات لفظية وأهمها الوزن والقافية يراد من ورائها إثارة الجذب والطرب والاستحسان والإعجاب، والقرآن تنزّه عن ذلك كله حيث لا يجري على نسق واحد كأوزان الشعر حيث له فواصل لا تلتزم بالقوافي يراد بها التأثير في النفس بالتذكير والتنبيه، فهو بيان وفرقان وبلاغ ورسالة يميز بين الحق والباطل وليس بغناء يُترنم به أو يقصد به المبالغة والادعاء والإثارة إنما هو ذكر يوقظ الأفئدة وينبه الجوارح. ونستنتج من ذلك أن القرآن الكريم لا يحط من مكانة الشعر أو يُنْــزل من قيمته بل يفرّق بينه وبين كلام الله وتوضيح اللبس الذي يقع فيه الكفار لما يحمله من سحر وبلاغة وبيان. فكلمة «شعر» في القرآن الكريم لم ترد مرة أخرى بل وردت كلمة شاعر في قوله تعالى: «وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ» (الصافات: 36). وذلك لبيان تصور المشركين ومزاعمهم، وفي سورة الأنبياء وردت كلمة شاعر في قوله تعالى «بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» (الأنبياء: 5). وبعد ما تغير وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوي جانبه وضعف جانب الكفار وردت كلمة شاعر في قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ» (الطور: 30). وفي ذلك إشارة لما روي عن الوليد بن المغيرة حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة السجدة خرج من عنده وهو يقول: «سمعت من محمد كلامًا ليس من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وقدرُدت تلك المزاعم في سورة الحاقة وفي آخر آية وردت لكلمة شاعر في مكة توضح للكفار مدى خلطهم بين الشعر والسحر والكهنوت وبأنه مرتبط بغيبيات وقوى سحرية خارقة للعادة، وتأكيدًا لهم في قوله تعالى في سورة الحاقة: «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ» (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43)». وقد انتهت تصورات الكافرين ودخل كثير منهم للإسلام فوقف الشعراء يدافعون عن الإسلام بالكلمة كما دافعوا بالسيف حتى عُرف في صدر الإسلام نوعين من الشعراء: فمنهم أصحاب الضلالة والكذب ومنهم الشعراء المسلمين الذين جندوا مواهبهم للدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولتوضيح اللبس لمن يشكك ويكره الشعر استنادًا للآية الكريمة في سورة الشعراء: «وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّـهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227?)، ولمن يحتج بها دون أدنى معرفة أو البحث عن تفسيرها بسوء تأويلها فالمقصود بها شعراء المشركين الذين تناولوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجاء ومسوه بالأذى، أما المؤمنين فقد استثناهم الله سبحانه وتعالى وشدّد على هذا الاستثناء بقوله تبارك وتعالى في الآية المذكورة سابقًا: «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ»، وإلا بماذا نفسر بأن هنالك شعراء من الأنصار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سخّروا الكلمة في الشعر لمدح رسول الله والانتصار له والدفاع عنه مثل حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبدالله بن رواحة، وحين حشدت قريش في حربها الإعلامية ضد الرسول وصحبه، شعراء مثل ابن خطل وابن حبابة وابن الزبعرى وهبيرة بن أبي وهب والتفَّت الناس حولهم وهم ينشدون هجاءهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حشد النبي من جانبه حرباً إعلامية مضادة من شعراء الأنصار كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة للوقوف في وجه قريش وشعرائها وقال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم، هؤلاءلنفر أشد على قريش من نضح النبل) أي من الرمي بها، وقال لحسان بن ثابت: (اهجهم - أي اهج قريشاً - وجبريل معك وروح القدس معك والقَ أبا بكر يعلمك تلك الهنات)، ومنهم أيضًا الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن التابعين الإمام الشافعي. وقد بارك عليه الصلاة والسلام استعداد كل من يدافع عن الإسلام ودعا الشعراء إلى ذكر مواطن الضعف في خصوم الدعوة حتى يشددوا عليهم الهجاء موضحًا أثره بقوله لرائد الشعر الإسلامي حسان بن ثابت: «اهجهم - يعني قريشًا - فوالله لهجائك عليهم أشد من وقع السهام في غلس الظلام». ومن أهمية الشعر لدى كفار قريش أنهم كانوا يرهبونه ويجزعون منه بعد إسلامهم لأنه كان يعيّرهم بكفرهم ليصبح مذَّمة وقدحًا. إذن الشعر في الإسلام رسالة من الشاعر والتزام منه في الحرص على الصدق والأمانة وذكر معاني الخير بما يخدم المبادئ والأهداف.
ومن المعروف أن نبي الإسلام لم يكن شاعرًا بمنطوق القرآن، بيد أنه عليه الصلاة والسلام كان مغرمًا بالشعر، حتى إنه جعل لحسان منبرًا في أقدس مكان عند المسلمين، أي المسجد، وأهدى كعب بن زهير بردة فسميت قصيدته «البردة»، وكم سَـمـَّط عليها ونسج على منوالها فطاحل الشعراء عبر الزمن. ويقول المُسلمُون إن القرآن ذو بلاغة خاطب العرب بها، ولغته راقية فصيحة، فلا عجب إذن والأمر ليس بجديد أن يفتخر المُسلم بالقرآن أمام غير المُؤمنين به، إذا عرفنا أن الأهم عند المُسلمين هو ميزة القرآن كلغة وسجع وشعر الذي يوجه القلوب والعقول إلى بدائع الكون الإلهي وخفايا النفس البشرية.
أنزل الله سبحانه وتعالى في القرآن سورة كاملة هي سورة الشعراء، وهذه السورة من عجائبها أنها بدأت بالحروف المقطعية (طسم)، وهذا إشارة إلى أن القرآن الكريم معجز في لفظه وبلاغته، ولهذا يقول كثير من الراصدين للتراث الإسلامي: إنه في عصر صدر الإسلام تأخر الشعر قليلاً، وهذا في تأويلهم: أن تأخره يعزى إلى اندهاش البلغاء والفصحاء وانبهارهم بالقرآن الكريم، ونجد مثل لبيد بن ربيعة وغيره الذين كانوا يقولون إنهم استغنوا بالقرآن عن الشعر، وإن أحدهم لما طلب منه شعر أخرج سورة البقرة وقال: الله أغناني بمثل هذا، وبالطبع لم يأت القرآن ليلغي الشعر، لكن إعجاز القرآن وبلاغته التي هي في الذروة العليا جعلت كثيرًا من الشعراء يتقاصرون عن شعرهم ويدركون أنهم محجوجون مخصومون، فالسورة بدأت بهذا المعنى، وختمت بقول الله سبحانه وتعالى: «وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ»، وهذا في الواقع حكم على اتباع الشعراء، بأن الشعراء يتبعهم الغاوون، ثم قال الله سبحانه وتعالى: «أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُون* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ» وهنا تلاحظ أولاً أن الله سبحانه وتعالى بدأ بذكر الغواية أولاً، لماذا؟ لأنهم» فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ». إذن فالعيب ليس لذات الشعر، وإنما العيب لمضمون الشعر إذا كان رديئًا وممجوجًا ونابيًا عن العرف والمألوف، وأيضًا: نلاحظ أن الختام في الآية هو قوله تبارك وتعالى: «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ».
نخلص من هذا أن ذم الشعر ليس للشعر ذاته وإنما لحالات خاصة يتقمصها بعض الشعراء يخرجون بها عن دائرة العرف والرصانة والسلوك السوي، وبالطبع ما من إنسان إلا وهو يتذوق الشعر خصوصًا العرب، حتى أن ابن أبي داؤد يقول: ما من عربي إلا ويقول الشعر في مناسبات معينة حتى لو لم يكن شاعرًا من الشعراء المتألقين المرموقين، فالنقد والعيب هنا هو لفئة من الشعراء، يقولون ما لا يفعلون، ويهيمون في كل وادٍ، ويكون همهم هو المتاجرة بالكلمة، وحشد الأتباع، والتأثير على الغير، حتى أنهم قد يقلبون الحق باطلاً والباطل حقًا والحسن قبيحًا والقبيح حسنًا، وقد يذمون الإنسان بما ليس فيه أو يمتدحون إنسان بما هو ليس أهلاً له، ونجد في شعر المتنبي أحيانًا وهو سيد شعراء العرب مثالاً لذلك فكثيرًا ما يأتي إلى بعض الملوك ممتدحًا، فإذا خاب مسعاه ولم يحصل منه على مراده ومبتغاه رجع ذامًا له متحاملاً عليه، كما في قصيدته في سيف الدولة: (واحر قلباه ممن قلبه شبم ** ومن بجسمي وحالي عنده سقم) إلى آخر القصيدة التي كان يظهر فيها نوعًا من العتب بشكل أو بآخر لأنه لم يحصل على مطلبه وبغيته، سواء أهذا المطلب كان مالاً أم إمارة أم أي مصلحة ما من المصالح، فالشاعر هنا قد يقلب الموازين وينفي الأعراف، وفي حالة أخرى هي ما يعرف عن بعض القبائل العربية باسم «أنف الناقة» مما جعل الناس يأنفون من هذا الاسم بل ويعيرونهم به، فانتشلهم شاعر من هذه الوهدة وأنقذهم منها بقوله: (قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ** ومن يساوِ بأنف الناقة الذنبا)، فصاروا بعد هذا البيت من الشعر يفتخرون بهذا الاسم ويتباهون به بين القبائل، لذا فعلى نفس المنوال قد يطيح الشاعر بقبيلة أو أمة أو شعب أو يرفع من قدرها ومكانتها بمثل هذه الأبيات الشعرية التي لا تكلف شيئًا في حقيقة الأمر.
أخيرًا، الشعر هو لسان ولغة وإعلام، فنحن إذا انتقدنا وسائل الإعلام لا ننتقدها كإعلام، وإنما ننتقد المضامين التي تتعلق مثلاً بالتضليل والخداع والإسفاف والاستخفاف بعقول الناس ومعتقداتهم ومشاربهم، وهذا – والله أعلم - هو المقصود في الآية الكريمة التي استثنى فيها عز وجل تلك الفئة المشار إليها في الآية الكريمة: «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا».
وختاما، كفى بالشعر منزلة عند العرب أن عائشة رضي الله عنها كانت تروي شعر لبيد بن ربيعة العامري رضي الله عنه كله. ورُبَّ بيت واحد من الشعر كان سبباً في نجاة قائله، أو إخراجه من السجن أو في حصوله على جاهٍ أو مال، ورُبَّ بيت واحد من الشعر وجبت لقائله الجنة يتبوأ منها حيث يشاء.