سهام القحطاني
النشاط المعرفي للإنسان كان مبتدأه «المحاكاة» السلوك المتوافق مع مصدر الفاعلية أو يمكن توصيفها «بارتدادية التطابق»، ثم عملية وضع التصورات، الإجراءات المعينة على تنفيذ تطبيقات التوافق.
بما يعني أن التاريخ الأول لنشأة الأفكار كان قائما على «استراتيجية القصدية»، وقد يذهب البعض إلى أن «اعتماد القصدية» هو مطلب رئيس لصناعة الأفكار وإبعادها عن غاية صناعة الأفكار تنفي أي قيمة إنسانية للأفكار وتدخلها البعد الافتراضي.
وفي هذا المقام يجب توضيح مسألة مهمة ركيزتها أن الدلالة الزمنية للقصدية هي دلالة متحركة، وحركتها هذه لا تعني تحولها إلى صبغة ظرفية أو اقتضائية، بل تعني قابليتها على إعادة دورها البنائي وفق الفاعل المسيطر عليها سواء في مرتبة الدافع أو الحاصل، وهذه الخاصية هي التي تمنح الحيوية التداولية للقصدية وفق آليتي تلك المرتبة من خلال القصدية الفاعلة أو القصدية الحاصلة.
القصدية الفاعلة والتي تنبني من خلالها الكائنية الواقعية هي التي تنتج نمطاً من التصورات بهدف التلاؤم مع واقع بالفعل والمعايشة، وتلك القصدية هي التي انبنت عليها نسقية المحاكاة؛ التطابق الكلي بين الفعل في مقياسه كممارسة ومصدر التطابق، وهذه القصدية هي التي مثلت مصدر الخبرة الحياتية الأولى للإنسان. وبعد استقرار التجربة الحياتية للإنسان في كليتها، أظهر هذا الاستقرار احتياجات إنسانية خارج نسقية المحاكاة تعلقت بتوطين الحقوق والواجبات، وهو أمر استلزم تقديم أفكار ومفاهيم لدلالة تلك الحقوق والواجبات.
كما أن ذلك الاستقرار نقى «القيم والأخلاق» من مصدرها «الشيئي» ليربطها بالمصدر الماهيّ ليدخلها ضمن أصول الجوهر وليكسبها صلاحية مستدامة، وتلك الصلاحية هي التي رسّخت مفهوم «الإنسانية ودلالاتها».
مع تطور الخبرة الإدراكية للإنسان الأول واستقرار المجتمعات وتبلور الوعي بقدرة الإنسان على التعايش مع الطبيعة، وهو وعي صنع قوته الدفاعية سواء على المستوى المادي أو مستوى الكفايات الفهمية، ذلك الوعي هو الذي دفعه للتحرر من رؤيته الشيئية التي تحرك تطبيقاته الادراكية نحو الأسئلة الوجودية في فضائها التجريدي ،ليتجاوز الشيئية إلى الماهية. وبذلك أصبحت الماهية هي التي تتحكم في نشأة القصدية من خلال تحققها كحاصل.
اعتمدت مرحلة المحاكاة على التوافق مع مظاهر مصدر الفاعلية ،لكن بعد استقرار الإنسان ونشأة العلوم المعتمدة على مظاهر مصدر الفاعلية وظهور الكتابة بدأ الإنسان البحث داخل «بحتية مصدر الفاعلية» متجاوزا مظاهرها، ومن هنا نشأ المنطق والفلسفة كصانعين أوليين لأفكار المعرفة ومن خلاهما -المنطق والفلسفة- بدأ تاريخ «السؤال الجدلي» والذي أسس فيما بعد علم الأفكار.
وبذلك فالمعرفة جزء من الفلسفة باعتبار أن الأصل أسبق من الإجراء والتطبيق، والمعرفة هي كائنية إجرائية.
ولذا تنبني المعرفة على يقين أو المؤكد من التحقق هدفا وغاية، وذلك بفضل خصائصها الإجرائية والتطبيقية المتمثلة في بناء النماذج والتمثيلات.
في حين أن الفلسفة تنبني على اعتبار «صفرية الدلالة» وهي بذلك تُحرر بحثها من أي إحالة شيئية أو ذاكرة متصورة بالاعتقاد وخلفياته في صيغها المختلفة مع الاحتفاظ بسند القرينة كمؤشر لواقعية القيمة المضافة بالاعتبار وأنسنتها.
اعتمدت المعرفة غالبا على مخرجات الفلسفة الفكرية ،فالفلسفة هي أول من وطّن المفاهيم نظريا ،وبدلا من أن تسهم الشيئية في صياغة المفهوم أصبح المفهوم هو الذي يسهم في صياغة الشيئية هذا التحول من المادية إلى الماهية ألغى إطار الدلالة كعلاقة مباشرة بين شيئين ،لتبرز توصيفات أخرى تحل محل تلك الإطارية مثل البنية والجوهر وانعكاساتهما سواء المتمثلة في المثل أو التصور.
قبل عهد الفلسفة كانت الكفايات الفهمية تعتمد على الصورة في نمطها الشيّئ لتُعبّر عن دلالة فكرية وبذلك تحولّت الرسومات علامات معرفية لفكر الإنسان وأحداثه وتطوراته وتأريخ لذاكرته الثقافية وحتى قيمه الجمالية في بعديها المادي والمعنوي.
وهذا الإجرائي المعرفي كان يتوافق مع مرحلة المحاكاة-ارتدادية التطابق- ولم يخل هذا الإجراء المعرفي من سلبية تبلورت في ربط الفكرة المعرفية بالتجسدية الدلالية، فالعلاقات المعرفية التي شكلت الاتجاهات سواء الفهمية أو السلوكية هي حاصل تلك الدلالية المادية.
هذا الربط قسم الوعي الإنساني إلى قسمين؛ قسم يتوافق مع خبرته الإدراكية وقسم يفوق تلك الخبرة أو قل عجز عن إيجاد تفسير شكلاني لها يحدد إطارها المعرفي.
ومن هنا بدأ تاريخ الأسطورة والتي حاولت أن تدمج بين الإدراك المعرفي الملحوظ والمجهول المعرفي الذي حاولت تقريبه من خلال وعيه الملحوظ من خلال الآلية التي وصفتُها سابقا بالمقاربة والتجاور، والذي تأسست في ضوئها الخيال الإبداعي وفنياته البيانية.
أما في عهد الفلسفة فبرز الفكر التفكيكي؛ أي تحويل الصورة من علامة شيئية إلى علامة بحتية خاضعة للتوصيف ومن هنا ظهرت الماهية كبنية معرفية للأشياء.
إن فكرة البنية كأصل معرفي هي التي أسست الخارطة الفكرية للجدلية. يقصد بالبنية ترميز وصفي للأفكار، وبذلك فالبنية ماهية فكرية خالصة.
لذا فهي لا تمثل محتوى ولا إطارا ولا دلالة إنما هي مٌؤسِسة لهم، وهي لا تكتفي بتلك الخاصية التأسيسية بل أيضا تملك إنتاجية المصطلحات، وهو ما يعني أن المصطلح كصيغة معرفية في أصله بنية فكرية.
ولاشك أن هناك فرقا فلسفيا بين البنى الفكرية والصيغ المعرفية التي تأسست في ضوئها جدلية العقل المعرفي.