سعد البازعي
مثل معظم النظريات والتيارات وحقول البحث التي تشهدها الثقافة العربية المعاصرة، جاءت النسوية (أو فيمينيزم) بوصفها حركة اجتماعية وسياسية إلى جانب كونها حقلاً للدراسات، ينطوي على نظريات ومفاهيم قادمة من خارج حدود العالم العربي، نظريات ومفاهيم جاءت من سياق غربي لتصل إلى بيئة ثقافية واجتماعية مغايرة، وتؤثر فيها. ووصولها لم يعنِ استقرارها، وإنما أنها ظلت متحولة، مختلفة الدلالات، حسب الأفهام والاستعمالات والظروف. ومن أهم أسباب تحول دلالات الجهاز المفاهيمي والنظري للنسوية أنها جاءت إلى بيئة لا تخلو من أوضاع تشبه الأوضاع التي استدعت تطورها في بيئتها الأصلية. أي إن التشابه أدى إلى الاختلاف. وهذه مفارقة. فمطالبة المرأة بحقوقها ليست حكراً على ثقافة أو مجتمع، وإنما هي ظاهرة عرفتها الثقافات والمجتمعات الأخرى، منها البلاد العربية. طالبت المرأة العربية بحقوقها منذ أمد طويل، قبل أن تعرف عن مطالبات أخرى. إننا نتحدث عن وضع إنساني تقتضيه الظروف، ويصنعه التطور. لكن مجيء المفهوم الغربي إلى الثقافة العربية أوجد حالة جديدة، تجاوزت المطالبة الأساسية للحقوق؛ لتؤثر في كيفية النظر إلى المرأة، إلى هويتها بوصفها أنثى في مقابل الرجل، أو ما يعرف اليوم بهويتها الجندرية أو الجنوسية. تشابه الأوضاع خلق الحاجة إلى دراسات تسلط الضوء على تلك الأوضاع، لكن الدراسات حملت اختلافاً فكرياً ومنهجياً، غيّر النظر إلى تلك الأوضاع. هنا نضع أيدينا على الأبعاد الفلسفية التي حملتها الدراسات النسوية الغربية التي أدت إلى طرح أسئلة جديدة حول طبيعة الأنوثة في مقابل الذكورة، ودفعت بباحثين وباحثات إلى قراءة الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي العربي من زوايا جديدة، بل قراءة التاريخ العربي الإسلامي من تلك الزوايا أيضاً، كما نجد في أعمال نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي وهشام شرابي وأسماء المعيكل وغيرهم ممن عنوا بوضع المرأة وتاريخها ومستقبلها. المفهوم الغربي، بحمولته الإبستمولوجية والمنهجية، دفع بالبحث في قضايا المرأة في اتجاهات تجاوزت مجرد المطالبة بحقوقها أو تحريرها على النحو الذي عرفته النهضة العربية منذ فارس الشدياق وقاسم أمين وهدى شعراوي وغيرهم.
من المفاهيم التي استُجدت مع تطوُّر الدراسات النسوية، وانتشار أسسها النظرية، مفهوم الأبوية أو البطركية (أو البطريركية)، أي إن دراسات الوضع الجندري للأنثى استدعى البحث في الوضع الجندري للرجل بوصفه أباً مهيمناً على الثقافة؛ الأمر الذي كشف للباحثين الطبيعة الأبوية للمجتمعات العربية قياساً على الطبيعة الأبوية للمجتمعات الأخرى، منها المجتمعات الغربية التي أنتجت هذه المفاهيم وأساليب البحث فيها. ومن أبرز الباحثين العرب الذين توقفوا عند هذا المفهوم فاطمة المرنيسي وهشام شرابي؛ فقد قاس كل منهما المجتمعات العربية على نظيراتها الغربيات، ووجدا في المفهوم مفتاحاً منهجياً لدراسة واقع المجتمع العربي وتاريخه. ومن أحدث الدراسات في هذا السياق دراسة أسماء المعيكل سيرة العنقاء: من مركزية الذكورة إلى ما بعد مركزية الأنوثة (2017).
ومن المفاهيم التي استجدت أيضاً المفهوم الشائع الآن، أي الجندر والجندرية أو الجنوسة، الذي يشير في الدراسات النسوية إلى دور الطبيعة الجنسية للإنسان، أي كونه ذكراً أو أنثى، وكيفية النظر إليها، والتحيزات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، بل حتى اللغوية الناجمة عنها، وما يعنيه ذلك من مواقف أيديولوجية، إلى غير ذلك من مسائل وقضايا وإشكاليات. كل تلك ركائز للدراسات النسوية وما يتصل بها من نظريات ومواقف، تطورت في إطار أوروبي أساساً، ثم انتقلت إلى الثقافات الأخرى، ولكن انتقالها لم يعنِ بقاءها كما هي بل إنها ككل ما يصدر من ثقافة إلى ثقافة؛ يتعرض للتمحيص والنخل والانتقاء في عمليات غير متعمدة أو مقصودة بالضرورة، ولكنها تأتي نتيجة التبيئة في الثقافة الجديدة. ويصدق ذلك على كل الأفكار المهاجرة: الماركسية الروسية غير الماركسية الصينية وغير الفرنسية وغير العربية، وكذلك هو الحال مع مدارس في الأدب وعلم النفس والاجتماع، بل حتى في ما يعرف بالعلوم الطبيعية (كما يؤكد عالم الفيزياء الروسي بريغوجين)، وإن بدرجة أقل ربما. لكن مَن يتعرف على نظريات توماس كون في البرادايمز أو فوكو في الإبستيمات والقطائع الإبستمولوجية سيتبيَّن له حتمية التغير والتبيئة حتى ضمن السياق الحضاري أو الثقافي المتجانس. النسوية اليوم حركة اجتماعية، وتيار فكري وثقافي متعددة الوجوه. في الولايات المتحدة، حيث وجدت النسوية بيئة مزدهرة منذ القرن التاسع عشر، تتلون النسوية بألوان الأعراق، وتختلف باختلاف خلفياتهم الإثنية والفكرية. فبعد تمركز أمريكي أنثوي أبيض جاءت الأمريكيات من أصل إفريقي للإعلان عن رفضهن للهيمنة البيضاء ذات الخلفية الأوروبية على الفكر والنشاط النسوي حتى وإن صدرت تلك الهيمنة عن نساء مخلصات لقضيتهن. وإلى جانب البُعد الإفريقي جاءت الأبعاد الجنسانية متمثلة بفئات المثليين والإنسانية متمثلة بالمهاجرين والمهمشين من كل فئة ولون؛ ففقدت النسوية تمركزها الأبيض والأوروبي بل حتى الأنثوي؛ لتغدو حركة تطالب بالمساواة للجميع. لكن الخروج عن دائرة الغرب ستفتح الأفق واسعاً للتعرف على حركات نسوية في سياقات إفريقية وآسيوية، تختلف أوضاعها ومطالبها باختلاف الظروف التاريخية والاجتماعية، وليدخل مع تلك السياقات سياق مهم، هو السياق المابعد كولونيالي؛ ليتضح تأثير الاستعمار على المرأة. وكان كتاب إدوارد سعيد (الاستشراق) باباً للولوج إلى عالم آر من المعاناة والمطالب الأنثوية. ومن اللافت والطريف هنا أن يتوجه بعض ذلك النقد إلى الخطاب النسوي نفسه، كذلك الذي كتبته جويس زونانا تحت عنوان «السلطان والعبد: الاستشراق النسوي وبنية (جين أير)». تقول زونانا إن بعض التيارات النسوية وظّفت صورة المرأة الشرقية لنقد أوضاع المرأة في الغرب دون أن تنتبه أنها اعتمدت على صورة استشراقية مشوهة لصورة المرأة الشرقية، ودون أن تحاول مد الجسور بين النساء في مختلف الثقافات.
هذه التحولات تذكِّرنا بأن النسوية في الغرب نفسه ليست واحدة، فما بالك بالعالم؟ فرنسا التي كانت سباقة للخطاب النسوي منذ نهاية القرن الثامن عشر، وتزعمت النسوية في القرن العشرين عبر أعمال سيمون دي بوفوار وهيلين سيكسوس ولوسي إريغاري وجوليا كريستيفا، شهدت انقسامات حادة ضمن تلك الحركة، كما في خروج كريستيفا على التيار العام، وتوجيهها الانتقاد لذلك التيار. فقد طالبت كريستيفا بكسر ما اعتبرته تمركزاً أنثوياً واستبداله بهويات جنسية متعددة، موجهة نقدها إلى ما سبق أن طرحته سيمون دي بوفوار والنسويات الأمريكيات الذين أساؤوا فهمها كما تقول.
في ما تبقى من ملاحظات سأنصرف عن هذا التاريخ من تطور الفكر النسوي لأركز الحديث حول ما يمكن أن نسميه صيغاً عربية للنسوية. تلك الصيغ تأثرت بطبيعة الحال - وكما ذكرت سابقاً - بالتيار الرئيس للنسوية الغربية، ولكنها تأثرت أيضاً وبقوة - في تقديري - بالظروف التاريخية والخصوصيات الاجتماعية والسياسية للمنطقة العربية، منها المكونات الثقافية الكبرى كالدين والموروث والعادات؛ لتنتج نسوية أو ربما نسويات إن تقاطعت مع غيرها في أنحاء العالم فإنها تنفرد بمكوناتها الخاصة والنتائج التي آلت إليها. في هذا السياق يمكننا أن نسترجع حركات تحرير المرأة، سواء التي أسهم فيها الرجال مثل أحمد فارس الشدياق في لبنان أو قاسم أمين في مصر، أو النساء مثل ملك حفني ناصف وهدى شعراوي في مصر وغنيمة المرزوق ولولوة القطامي في الكويت وثريا عبيد وسميرة خاشقجي في السعودية وماري عجمي في سوريا، وغيرهن في أقطار عربية أخرى. مطالبة أولئك بتحرير المرأة من ربقة القيود الكثيرة لم تكن بحاجة إلى الآخر لتحدث؛ فهي جزء من حراك حتمي، سيحدث في وقت ما، لكن من الصعب تصور تطور أفكار ومفاهيم أو مناهج بحث لولا التعرف على معطيات الحضارة الغربية المعاصرة؛ فالنسوية أو تحرير المرأة كان جزءاً من النهضة العربية التي تنامت في القرن التاسع عشر نتيجة لمؤثرات مختلفة، في طليعتها - دون شك - الاحتكاك، وأحياناً الاصطدام بالآخر، وهو الآخر الغربي تحديداً، سواء جاء على شكل إرساليات وحملات تبشيرية، أو احتلال استعماري، أو بعثات، أو غير ذلك.
غير أن الجذور المحلية للتغيير، وإن لم يكن لها أثر عميق، جديرة بالبحث والتأمل مع ترك الاحتمال مفتوحاً أن تكون مما مهد الطريق أو خلق البيئة الحاضنة للتغيير. فحصول الإنسان على حقوقه ودفاعه عن كرامته وتطلعه إلى الحرية والاحترام ليس محصوراً بزمن أو شعب أو فئة من الناس، وإنما هو شوق إنساني دائم، لخصه القرآن الكريم في تشديده على كرامة الإنسان: {ولقد كرمنا بني آدم}، وهو تكريم لم يحصر بجنس أو لون أو مكان أو زمان. ومن هنا نستطيع أن نفهم كفاح الإنسان العربي حتى في صحرائه عن كرامته، الإنسان في صفته الذكورية أو الأنثوية. المرأة التي عبّرت عن نفسها بلغتها العامية البسيطة هي نسوية من نوع ما، تلتقي مع غيرها في المطالبة بالحقوق والكرامة. ولعل الكثيرين يتذكرون أبياتاً للشاعرة البدوية مويضي البرازية:
ما هوب خافيني رجال الشجاعة
ودي بهم مير المناعير صلفين
إلى آخر الأبيات التي تعبّر فيها عن رغبة المرأة في تسنم القيادة في المنزل، وإدراكها في الوقت نفسه أن ذلك لن يتحقق إلا عندما يكون الرجل بعيداً عن صلف الشجعان أو تعاليهم:
أريد مندس بوسط الجماعة
يرعى غنمهم والبهم والبعارين
أو قول شاعرة أخرى:
يا هضاب ليتي من حصاكم حصية
والا الهوى ياهضاب حيثه يروحي
يا ليت ربي ما خلقني بنية
إما ولد والا بقباض روحي
نضال المرأة من أجل حقوقها يتحقق بالتعبير عن ذلك كما يتحقق بطرح المثال الحي في السلوك والممارسة العملية في الحياة الاجتماعية. والنماذج في هذا السياق لا حصر لها، ففي كل المجتمعات العربية نجد نماذج عديدة ومضيئة للكفاح الفردي لتحقيق التكافؤ بين المرأة والرجل، لكني سأذكر نموذجاً واحداً، بوصفه مثالاً لا أكثر. ذلك النموذج رافق نشأة الدولة السعودية مطلع القرن الماضي، هو نموذج موضي البسام من عنيزة في منطقة القصيم بنجد. تلك المرأة التي كانت أنموذجاً للشجاعة والكرم الذي تفوقت فيه على كثير من الرجال الصلفين بتعبير مويضي البرازية. لقد ساعدت موضي الجرحى والجوعى أثناء حروب الملك عبدالعزيز لتأسيس الدولة السعودية الثالثة، وقد أعجب بها الملك، وزارها في بيتها وهي سيدة مسنة. وكان من مظاهر الإعجاب بموضي البسام أن قيلت عنها عبارة جرت مجرى الأمثال، هي: «إن جاك ولد سمه موضي».
لكن قبل تلك النسوة القريبات هناك نماذج رفيعة في التاريخ العربي الإسلامي، تتصدره السيدة خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - التي كانت سيدة أعمال، وذات عقل راجح، ارتفعت في المكانة حين صارت أول من صدّق زوجها رسول الله، وأول من سانده. وبعد خديجة عُرفت نساء كثيرات، منهن أمهات المؤمنين، وأخريات من العالمات، سواء في زمن النبوة أو في عصور الحضارة الإسلامية. لكن دور المرأة في ذلك التاريخ ظلت تهيمن عليه رؤية أبوية، تكتبه من منطلقات ذكورية متحيزة، حتى تشوه؛ واستدعى إعادة النظر. تنطلق المفكرة المغربية فاطمة المرنيسي في بعض دراساتها من تلك القناعة في مسعاها لإعادة كتابة التاريخ العربي الإسلامي فيما يتصل بالمرأة، ومن منظورات لا تخلو من مرتكزات أوروبية، كما في مفهوم البطركية والجنوسة. وقد سعى المفكر الفلسطيني هشام شرابي إلى قراءة الواقع الاجتماعي والسياسي العربي من المنطلق ذاته تقريباً. وفي كتابها الحريم السياسي: النبي والنساء (1990) تشكك المرنيسي في صحة أن الإسلام وقف ضد مشاركة المرأة في العملية السياسية، وتعيد قراءة التاريخ بالتشكيك في صحة الحديث الذي رواه رجل يعرف بأبي بكرة حول رفض الإسلام لتولي المرأة السلطة. أما شرابي فيستعمل مصطلحي البطركية والنظام الأبوي لنقد البنية الأيديولوجية للمصطلحين تحت تأثير واضح من النقد النسوي، وذلك في كتب معروفة، منها البنية البطركية (1987) والنظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي (1992).
لكن الموقف النسوي لم يتوقف عند الدراسات التي أنتجت حول المرأة، وإنما مس النساء اللاتي أنتجن تلك الدراسات، واللاتي دخلن في معترك العمل السياسي والثقافي والاجتماعي. النقد الذي وجه لتلك النساء وللخطاب النسوي دال بحد ذاته على ما سعى ذلك الخطاب إلى الكشف عنه ومقاومته. في هذا السياق يمكننا أن نتأمل في حياة وأعمال بعض تلك النساء، وما واجهن من صعوبات، بل حتى ما لقين من تكريم. المرنيسي نفسها كانت تكتب بالفرنسية، ثم تترجم أعمالها إلى لغات أخرى، منها العربية، وتوجهها إلى جمهور غربي أولاً من خلال اللغة، مع عدم استثناء الجمهور العربي الفرانكفوني بطبيعة الحال؛ وهو ما يحمل بحد ذاته قلقاً من الموقف المتوقع تجاه النقد الذي وجهته الكاتبة للثقافة والمجتمع العربي الإسلامي حاضراً وماضياً. كتبها ليست محل ترحيب في كثير من البلاد العربية، وذكرت بعض المصادر أن كتابها الحجاب والنخبة الذكورية: تفسير نسوي للإسلام مُنع في عدد من الدول العربية. لكن اللافت أيضاً أن تكريم المرنيسي جاء في المقام الأول من أوروبا التي منحتها جائزتين شهيرتين: جائزة أستورياس وجائزة إيراسموس. وليس ثمة ما يشير إلى أنها كُرمت في أي من الدول العربية. ويصدق ما هو أكثر من ذلك على الموقف من نوال السعداوي التي كان الموقف منها متسماً بالنقد الحاد والرفض، ولم تجد التكريم والاهتمام إلا في الغرب، ولاسيما في الولايات المتحدة.
أكثر وضوحاً ودلالة من ذلك ما واجهته إحدى رائدات النسوية العربية مي زيادة في مصر ولبنان مطلع القرن الماضي. سعت مي إلى البحث عن موطئ قدم في المشهد الثقافي والأدبي العربي في مصر الناهضة بين عمالقة الأدب والفكر، مثل طه حسين والعقاد والرافعي وغيرهم، والاحتفاء الذي وجدته ممن حضروا صالونها الأدبي الذي حاكت به صالونات أوروبا كان احتفاء ممزوجاً بغير قليل من التعالي الذكوري الذي عبّر عنه العقاد بمديح ملتبس، ذكرته غادة السمان في معرض حديثها عن مي: «تلك الفتاة ظلت أسيرة النظرة الأنثوية. فالزحام المتملق حضور موحش، ومي كامرأة ذكية ومرهفة كانت بالتأكيد تعي وخز الاستهانة بإبداعها ككاتبة، ومعظم الذين حولها يمطرونها بزبد الإعجاب الملتبس بشخصها الناعم قبل إبداعها». ويقال إن الرافعي طلبها زوجة ثانية. وفي أوضاع كتلك ندرك لماذا غيّرت مي اسمها من ماري إلياس زيادة إلى اسمها المعروف؛ ففي ذلك ابتعاد عن الاسم المسيحي في مجتمع مسلم، كما أننا ندرك لماذا اختارت مي أن تترجم أعمالاً أجنبية تتحدث هي من خلالها عن معاناتها، كما في كتابها ابتسامات ودموع الذي كان عنوانه في أصله الأجنبي الحب الألماني. لكن المعاناة الأكبر جاءت في نهاية حياة الكاتبة حين أُصيبت بالاكتئاب؛ فتدخّل أهلها ليأخذوها من مصر إلى لبنان، ويستولوا على ممتلكاتها، ويضعوها في مصحة عقلية، لم يخرجها منها سوى عدد من الشخصيات التي أدركت حجم المأساة، منهم المؤرخ اللبناني المعروف أمين الريحاني. لقد توفيت مي بعد ذلك بفترة قصيرة عن خمسة وخمسين عاماً.
لم تكن مي زيادة نسوية بالمعنى الدقيق للكلمة، لكنها نافحت عن حقوق المرأة بطريقتها الهادئة الناعمة. وأهمية حالتها تكمن في أنها تجسد الأوضاع التي سعت لتغييرها، وهو ما يمكن أن تحكيه غير كاتبة وغير مثقفة عربية، بل ربما ملايين النساء في وطننا العربي وأجزاء كثيرة من العالم، ليس في الماضي فحسب وإنما في عالمنا الذي نعيش اليوم أيضاً.
... ... ...
ورقة قدمت في منصة كلمات بمكتبة الكويت الوطنية