أنهت المكالمة وهي لا تصدق.. هل يعقل أن تحتاجه مرةً أخرى؟ بعد كل هذه السنوات.. سنوات أطول من أن تحصيها.. هل لا يزال موجودًا؟ ربما سرق.. أو ضاع.. ربما لم يعد كسابق عهدها به.. مشاكس.. لماح.. لا يتوقف عن العمل أبدًا.
مسحت نظارتها العتيقة.. وأمسكت بعكازها، وحاولت النهوض عن كرسيها.. تذكرت يوم قررت أن تتخلى عنه.. لم تكن تحتاجه في أحداث يومها.. روتين.. أيام متشابهة.. قرارات بديهية.
تمشي خطوات قصيرة.. بطيئة.. وتتجه نحو السلم.
كانت حادة الذكاء في سنوات الدراسة.. كثيرًا ما أثنت معلماتها على طريقة تفكيرها.. وتوقعن لها مستقبلًا متميزًا.. وما الغريب في الحال الذي آلت إليه.. فطالما خابت التوقعات..
تصعد الدرجات ببطء.. مفاصل ركبتيها تُصدر صوتًا مضحكًا.
في تلك المكالمة غير المتوقعة.. أخبرها أنهم بحاجة إليها.. ظنت أنه أخطأ الرقم.. لولا أنه تأكد من شخصيتها في بداية المكالمة.. «دكتورة نورا».. كتمت ضحكتها عندما سمعت لقب دكتورة.. لم تسمعه منذ زمن بعيد.. جدًا.. زمن جميل.. مُضيء.. كل أيامه أكثر إشراقًا.. زمن كانت ترتدي فيه معطفها الأبيض.. وتقضي الساعات الطويلة في معملها.. سباق محموم مع الساعة تحاول فيه إنجاز أكبر قدر من التجارب قبل عودتها إلى المنزل.
«دكتورة..» أعادها صوته إلى أرض الواقع.. أكمل كلامه وشرح لها احتياجهم لمشاركتها في قيادة فريق سيقوم بعمل تجارب، بُنيت على بحثٍ قديم، قامت به قبل سنوات.. ترددت قليلًا.. ثم اضطرت إلى الموافقة بعد إلحاحٍ شديد.
بدأت بصعود الدرجات القليلة التي تفصلها عن الغرفة التي وضعته فيها.. لا تنسى ذلك اليوم مطلقًا.. كانت تقوم بمهامها اليومية.. مهامها السخيفة.. وكان يلح عليها.. فكرة تلو فكرة.. أبحاث جديدة.. تجارب.. كلها أشياء لا تملك الوقت للقيام بها.. حاولت أن تُسكته بشتى الطرق.. موسيقى عالية.. تلفزيون.. لكن صوته كان أعلى من كل الأصوات.. أحست بالصداع.. وضيق في التنفس.. وفي اللحظة التي انغرس السكين في كفها وهي تقطع البصل.. ألمٌ حاد.. مفاجئ.. جعل الأشياء تتداخل أمام عينيها.. في تلك اللحظة قررت أن تتخلص منه.. إلى الأبد.. لكنها ولحسن الحظ.. هدأت قليلًا بعد أن ضمدت الجرح العميق.. الذي لامس قلبها.. فتراجعت عن قرارها.. واكتفت بأن تسجنه.. في غرفة مغلقة لم تفتحها ولم تسمح لأحد بفتحها منذ ذلك اليوم.
عند باب الغرفة.. ألقت بالنظارة والعكاز على الأرض.. أبعدت الغبار وخيوط العنكبوت.. وتناولت المفتاح الصدئ.. أدارته في الباب فأصدر صريرًا له صوت النحيب..
عاد البريق إلى العينين.. غادرت الرعشة اليدين.. واستقام الظهر المنحني.. دخلت بخطوات واثقة.. ركعت على ركبتيها أمام صندوق عتيق كتب عليه.. «لطفًا لا تفتح الصندوق.. فهنا.. سجنت عقلي».
** **
- شذى صابر