د. عبدالحق عزوزي
دعيت منذ أيام للتحدث عن مسألة التسامح في ملتقى الاتحاد السنوي، ويفتح هذا الموضوع المجال واسعاً أمام تفاهم الشعوب والجماعات، ويؤدي إلى تقارب الحضارات وتلاقحها، وينطلق من نقاط الالتقاء بدلاً من أوجه الاختلاف، في إطار الالتزام بالموضوعية والحياد عند تناول الآخر من النواحي كافة، والابتعاد المطلق عن تغيير الحقائق على نحو يشوِّه صورة الآخرين أو يسيء إليهم. وهذا اختيار العقلاء وسبيل يسلكه الحكماء ومسؤولية إنسانية مشتركة يتحمّلها بصورة خاصة، صانعو القرار والنخب الفكرية والثقافية والإعلامية في العالم أجمع، من أجل المشاركة الجماعية في بناء السلام في الحاضر والمستقبل. فالتنوّع الثقافي والديني في المجتمعات الإنسانية لا يبرر الصراع والصدام، بل يستدعي إقامة شراكة حضارية إيجابية، وتواصلاً فاعلاً يجعل من التنوّع جسرًا للحوار، والتفاهم، والتعاون لمصلحة الجميع ...
في تدخلي قلت بأن الدول التي تتبنى فكراً وسلوكاً مسألة التسامح فإنها تتوفر بذلك على قوة ناعمة تعلو وما يعلى عليها. فكما يعلم المتتبعون للشأن الدولي، فهناك كتاب مرجعي مهم أصدره في أواخر ثمانينيات القرن الماضي أستاذ جامعة هارفرد، الماريشال جوزيف ناي، عنوانه «القوة الناعمة: معاني النجاح في السياسات الدولية»، وأكد فيه مزايا الدبلوماسية والقوة الناعمة التي تتأتى من جاذبيتها الثقافية والسياسية وغيرها.. والتي يمكنها أن تحقق الكثير من الأشياء، فنجده يكتب: «إنه وإن أمكن الوصول إلى الأهداف من خلال القوى الخشنة، باستعمال القوة من قبل القوى الكبرى، فإنه قد يشكِّل خطراً على أهدافها وتطلعاتها الاقتصادية والسياسية وحتى الثقافية»، لذا فإن أرادت أميركا أن تبقى قوية، «فعلى الأميركيين أن ينتبهوا إلى قوتهم الناعمة». فالقوة الناعمة هي القدرة على التأثير في الآخرين بحيث يصبح ما تريده هو نفسه ما يريدونه، وبحيث تصبح قيمك وثقافتك ومبادئك وطريقتك في الحياة هي النموذج الذي يودون احتذاءه. انتشار محلات الأكلات السريعة ومكدونالد في جميع أنحاء العالم وتعلّق الناس في أنحاء العالم بسروال الجينز الأمريكي هو قوة ناعمة. كما أن سمعة بعض دول أوروبا الشمالية باعتبارها البلدان الأقل فساداً في العالم هو قوة ناعمة. الدقة المعروفة عن المجتمع السويسري هي قوة ناعمة. مدينة فلورنسا الإيطالية كعاصمة للرسم والفن والهندسة المعمارية هي قوة ناعمة؛ قوة باريس الثقافية من متاحف وفنانين ومآثر هي قوة ناعمة؛ كما أن سعي بعض الدول لبناء الأسرة الإنسانية الواحدة في إطار ما سميته بالسياسات العمومية هي قوة ناعمة. إنه الحوار العالمي البنَّاء الذي يقوم على اجتثاث مسببات الكره من جذورها.. الحوار المحايد دينياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً وعرقياً وجنسياً..
إن الصدامات والصراعات تسبب المآسي على مستوى الأفراد والشعوب، وتزرع الكراهية والنفور بين البشر، والبديل الأمثل للوقاية منها هو التعقّل والحوار والتفاهم والتعايش السلمي واحترام حقوق الآخرين ومراعاة خصوصياتهم.
والإسلام دين سلام يعترف بجميع الديانات السماوية ويحترمها ويعترف بالأنبياء والرسل كافة. والحضارة الإسلامية جزء من الحضارة الإنسانية، تقوم على الوسطية والاعتدال والتعايش السلمي، والإيمان بالقيم المشتركة الثابتة، والتعاون والتفاهم المتبادل بين الحضارات، والتحاور البنَّاء مع الديانات والثقافات. فنظريات مثل تلك التي تتحدث عن «صدام الحضارات» و»حرب الثقافات» هي خطابات خاطئة ومغرضة تنبني على سجن الأفراد والجماعات في انتماءاتهم وهوياتهم الثقافية والحضارية، فلا يعقل أن تنمو وتتطور حضارة من الحضارات في معزل عن مكونات الحضارات والثقافات الأخرى.
ولا غرو أنه إذا كانت القيم الحضارية والقواعد المشتركة الإنسانية هي لبنات كل حوار مثمر وفعَّال، فإن في القيم الدينية المشتركة بين الإسلام وغيرها من الديانات السماوية ما يمكِّن لفتح الطرق أمام التجاوب والتعارف، وفي القيم الحضارية المشتركة ما يسمح لها أن تعيش في وئام ووفاق.
ويؤسس النص القرآني صيغة التعارف والتعايش في الاجتماع البشري، مبنية على الأمن والتسامح والسلم الأهلي في آيات متعددة، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. فإذا تساءلنا عن الأصول المنهجية لفقه التعارف المستوحاة من القرآن الكريم، ومرتكزات ثقافة التعايش مع الآخر الداخلي، فإننا نجد أن هذه الآية الكريمة التي هي الأساس في فقه التعارف تؤكد على واقعية الخصوصيات الإنسانية القومية والعرقية والجغرافية، لأنها تمثِّل واقع الوجود الإنساني الذي لا يمكن إلغاؤه.