د.سالم الكتبي
«موت الإمبراطورية الأمريكية في الشرق الأوسط» استنتاج لافت للانتباه نشرته صحيفة «اندبندنت» البريطانية ضمن عنوان مقال للكاتب روبرت فيسك، قال فيه أيضاً: إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو «القيصر الآن»، وجاء هذا الاستنتاج انطلاقاً من الاتفاق الذي وقعه الجانبان التركي والأمريكي مؤخراً، وهو اتفاق لا يعكس دوراً كبيراً للطرفين في الأزمة السورية، فالواقع يشير إلى أوراق الحل والعقد لا تزال بيد روسيا، اللاعب الرئيس في الأزمة، والأرجح أن القمة المقبلة بين أردوغان والرئيس بوتين ستكشف عن محورية الدور الروسي، وأن مهلة الـ120 ساعة التي وردت في الاتفاق ليست سوى مهلة للحصول على ضوء أخضر من القيادة الروسية على تنفيذه، أو مباركة روسية لبنوده.
مايهم روسيا في سوريا الآن هو ضمان استعادة الجيش السوري سيادة البلاد على كامل الأراضي السورية، وهو أمر بات على وشك التحقق وبل إن العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا قد ساعدت في تحققه من دون قصد من جانب أنقرة! حيث تم انهاء سيطرة القوات الكردية على هذه المنطقة بموجب الاتفاق التركي الأمريكي.
الحقيقة أن كل اللاعبين في الأزمة السورية قد لعبوا لمصلحة الهدف الروسي ـ السوري، فالانسحاب الأمريكي الفجائي ثم الاعتداءات العسكرية التركية على الأراضي السورية استغلالاً لهذا الانسحاب قد وفر البيئة الملائمة كي تنجح روسيا في اقناع أكراد شمال سوريا بقبول العودة إلى السيادة السورية مقابل توفير حماية لهم من جانب القوات الحكومية السورية بعد تخلي الولايات المتحدة عن حمايتهم،، بل إن تدخل القوات السورية في العمليات العسكرية وتمددها في الشمال السوري كان أحد عوامل الضغط المهمة التي أربكت تخطيط أردوغان ودفعت باتجاه موافقته على خطة نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس التي كانت في الحقيقة بمنزلة طوق إنقاذ لتركيا وللرئيس ترامب في آن واحد.
لا تريد روسيا في الوقت الراهن أي صدام عسكري تركي ـ سوري، بل الأرجح أنها ستشجع الطرفين على التهدئة وربما الحوار، تمهيداً لاستئناف العملية السياسية في سوريا وتحقيق الأمن والاستقرار وتشجيع جميع الأطراف الإقليمية على الانفتاح على سوريا مجدداً، ما يضع روسيا في منزلة اللاعب الدولي الرئيسي الذي يعيد هندسة الأزمات والأوضاع في الشرق الأوسط.
هل تعني هذه التطورات مكسباً استراتيجياً مهماً للرئيس بوتين وخصماً من رصيد الولايات المتحدة في الشرق الأوسط؟ الجواب نعم، فروسيا التي تقلص نفوذها في المنطقة تماماً منذ انهيار الاتحاد السوفيتي السابق في العقد الأخير من القرن العشرين عادت بقوة إلى مسرح نفوذها التقليدي القديم مع بداية الأزمة السورية عام 2011، ثم سعت لاستعادة الكثير من مناطق نفوذها التقليدية، باعتبارها الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي السابق، في دول مثل مصر عبر علاقات تعاون استراتيجية متنامية، كما سعت بجدية إلى فتح آفاق جديدة لدورها عبر علاقات تعاون مع دول تقع ضمن مناطق النفوذ التقليدي الأمريكي مثل دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، حيث أصبحت روسيا تمتلك علاقات تعاون كبيرة مع المملكة العربية السعودية وشراكة استراتيجية متنامية مع دولة الامارات، ولم يقف تحالف موسكو مع طهران حائلاً دون تمدد روسيا على الشاطئ الآخر من الخليج العربي، في محاولة لبناء مقاربة استراتيجية متوازنة تلعب فيها روسيا دوراً أساسياً في بناء معادلة الأمن والاستقرار الإقليمي.
أسهم في تحقيق الرؤية الاستراتيجية الروسية أن الجانب الأمريكي في عهد الرئيس ترامب يتبنى مقاربة قائمة على تقليص الدور الأمريكي في توفير ضمانات الأمن لحلفاء واشنطن في المنطقة، حيث تردد الرئيس ترامب كثيراً، ثم تراجع نهائياً، عن معاقبة إيران على سلوكها الطائش وممارساتها المتكررة بالاعتداء على ناقلات النفط والمنشآت النفطية في منطقة الخليج العربي، ما أسهم في وجود ما يشبه الفجوة في علاقات التحالف الخليجية الأمريكية، وسمح ذلك لروسيا بالتحرك وتعزيز الثقة مع دول المنطقة اعتماداً على نموذج الدعم العسكري القوي الذي قدمته روسيا للحليف السوري طيلة السنوات الثماني الماضية.
الواضح أن روسيا تقوم بهندسة دورها في الشرق الأوسط بهدوء ودقة شديدة، وتتمدد في كل شبر ينحسر فيه النفوذ الأمريكي، ومن السابق لأوانه القول إن روسيا ستحل محل الولايات المتحدة في المنطقة، فروسيا دولة كبرى لها تطلعات وطموحات تعمل على تحقيقها، وتحقق نجاحات مشهودة على هذا الصعيد، وبموازاة ذلك يجب الاعتراف بأن النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط وغيره من مناطق العالم يرتبط بشكل وثيق بنفوذ الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة تهيمن على مفاصل النظام العالمي القائم، وما يحدث هو إعادة ترتيب لأولويات الاهتمام الأمريكية، وهي مسألة لم يبدأها الرئيس ترامب بل انطلقت في عهد سلفه الرئيس أوباماً، الذي وقع الاتفاق النووي مع إيران عام 2015، بهدف تخفيف الوجود الأمريكي في الخليج العربي والتركيز على تنفيذ استراتيجية «آسيا أولا» التي تستهدف القوة الصينية الصاعدة، وترامب لم يبتعد كثيراً في حقيقة الأمر عن هذه السياسة، وتحركاته تختلف تكتيكاً وليس استراتيجياً عن سياسات سلفه، ويتميز بكونه يحاول بلورة رؤية جديدة لعلاقات التحالف الأمريكية مع جميع الشركاء وليس مع دول الخليج العربي فقط، فهو يتحدث باللغة ذاتها مع حلفاء الولايات المتحدة التاريخيين في أوروبا وشرق آسيا، ويركز على صفقات التسلح وتحمل أعباء الحماية الأمريكية للشركاء الاستراتيجيين.