د.صالح بن عبدالله بن حميد
الحمد لله إليه مصائر الخلائق، محيي الأموات، وجامع الرفات، مقدر الآجال، ومقرب الآمال. خلق الموت والحياة ليبلو المكلفين أيهم أحسن في الأعمال. وصلوات الله وسلامه على سيدنا ونبينا محمد، سيد البشر، الشافع المشفع في المحشر، وعلى آله وأصحابه ومَن سار على نهجه واقتفى الأثر.
وبعد:
من المعلوم لدى كل عاقل أن وقع المصائب على النفوس من أشد الشدائد؛ فهذه الدنيا إذا صفت كدرت، صفاؤها وكدرها متعاقبان إلى أن يتعقب الجميع هاذم اللذات، ومفرق الجماعات؛ ليرحلوا إلى عالم الأموات، فرادى وجماعات، ثم يبعثون ليوم الحساب.
ومن عاش في الدنيا فلا بد أن يرى
من العيش ما يصفو وما يتكدر
والسعيد من يتفق الناس، أو جُلُّهم، على محبته واحترامه وهيبته، فكيف إذا كان ذلك عن علم، ومعرفة، ومشاهدة، أو سماع..
لعمرك ما وارى التراب فعاله
ولكنما وارى ثيابا وأعظما
والإنسان حينما يتحدث عن نازلة في فَقْد عزيز يجله، ويحترمه، وله تأثيره عليه، فإن خياله ينطلق، وذاكرته تمتد؛ فيأخذه التجوال والتطواف في عوالم واسعة من الأخيلة في دروب الحياة ومساراتها، وأجواء الشخصيات وطبائعها، والذكريات وحنينها، والأيام وتقلباتها، والعِبَر ودروبها.
ما أحسن الأيام إلا أنها
يا صاحبي إذا مضت لا ترجع
ولكن هذه حال الدنيا مع أهلها وساكنيها، وليس على المسلم إلا أن يسترجع ويصبر ويحتسب ويترحم.
بلى إن هذا الدهر فرق بيننا
وأي جميع لا يفرقه الدهر؟
أقدِّم بهذا وأنا أسجِّل هذه الكلمات الحزينة عن شيخي وأستاذي أستاذ الجيل المربي الجليل القائد التربوي الأستاذ/ محمد بن سليمان بن محمد الشبل - رحمه الله - الذي وافته المنية يوم الجمعة 19-2-1441هـ. من رجالات التربية والتعليم الذين شاركوا في البناء التربوي، والعطاء العلمي.. جمع بين العلم والمعرفة والخبرة المهنية في الإدارة التربوية.
الأستاذ محمد من مواليد عنيزة عام 1349هـ، وترعرع شبابه في مكة المكرمة في حرمها وحلها، وتخرج من المعهد العلمي السعودي عام 1369هـ، ثم درس في كلية الشريعة بمكة، وتخرج فيها عام 1373هـ.
وفي عام 1374هـ عُيّن مدرسًا في المدرسة الرحمانية الثانوية بمكة المكرمة، ثم ما لبث أن أصبح بعد مرور عامين مديرًا للمدرسة.
وفي عام 1380هـ عُيّن مديرًا لمدرسة الملك عبدالعزيز الثانوية بمكة المكرمة إلى أن أُحيل للتقاعد عام 1409هـ.
يشهد له رصيد من المسيرة الإدارية والقيادة التربوية، منها ثلاثون عامًا مديرًا لمدرسة الملك عبدالعزيز الثانوية بمكة المكرمة، وهي من أوائل المحاضن التربوية والتعليمية في المملكة العربية السعودية -حرسها الله-، وكانت تحمل اسم: (مدرسة تحضير البعثات)، فتخرج من هذا المحضن ثلة من خيرة رموز العلم والمعرفة؛ فكان لهم شرف المشاركة في بناء الوطن من خلال مناصبهم التي تقلدوها، وأحسنوا تمثيل بلادهم في مسؤولياتهم في الداخل والخارج.
ويتمتع المربي أستاذي الشيخ محمد الشبل -رحمه الله- بخُلق وحُسن تعامل ولطافة في علاقاته الأسرية والعائلة والوظيفية؛ فهو يمتاز بعاطفة أبوية، وبحكمة قيادية، وبتوجيهات تربوية، وبتقدير للأمور، وتوازن في المواقف.
ويقود تلك الخصال تواضع جاذب غير متكلف؛ جعل زملاءه ومَن يعرفه يدرك قيمة وفائه، وصادق نصحه وتوجيهه. ويظهر تميُّزه -رحمه الله- في صناعة الواقع العلمي في البيئة التربوية والتعليمية؛ فهو يهتم بالبناء المعرفي مضامين وواقعًا.
كان في عطائه التربوي ومسيرته المهنية يلحظ ثلاث مسائل: المعرفة العلمية المتكاملة، والواقع التربوي الملائم، والتطلع للتطوير في علاقة أطراف العملية التربوية من جهة، والمحضن التربوي ومرافقه الخادمة من جهة أخرى.
كان -رحمه الله- يرى نفسه في المشاركة المباشرة في التعليم ومعايشة عناصره، والتعايش مع قضاياه، والاستمتاع بمعالجة الإشكالات، واقتراح الموازنات المستقبلية؛ ولهذا اعتذر عن مناصب كانت في حساب الآخرين أعلى مما هو فيه، ولكن تمسك بهذا المرفق وأداره بحنكة، وخرّج رجالات يفاخر بهم.
وتلك المكونات في شخصيته -رحمه الله- جعلته في مساعيه التربوية متجهًا نحو المصالح النافعة والعائدة على تكوين الطلاب وتأهيل المعلمين بما يضمن استقرار التبادل المعرفي والعلاقة التربوية بين التلميذ وأستاذه؛ فهو حازم بحكمة، وجازم بحنكة؛ لذلك كان -رحمه الله- باقيًا في ذاكرة الطلاب والمعلمين؛ فإذا ذُكر النجاح التربوي وانسجام التعليم المدرسي والقدرة الإدارية التربوية ذُكر -رحمه الله- فقد كان -رحمه الله- من أهل الفضل والعلم والتربية.
وأشهد أنه لا يكاد يجري الحديث عن التعليم في مكة وتاريخه وآثاره بين ذوي الشأن في التربية والتعليم إلا وتحضر صورة هذا الرجل وسيرته.
ومن المبهر أنه -رحمه الله- رغم هذا العطاء العلمي والتربوي، وتزاحم مهام القائد التربوي، بقيت مشاعره وشاعريته حاضرة على منصات الشعراء، وبين أقلام الشعراء؛ فالشيخ محمد الشبل -رحمه الله- هو في مصاف أدباء العصر، ومن كبار الشعراء في المملكة العربية السعودية. فمن أعماله الأدبية ديوان «نداء السحر» و»أزهار وأشواك»، وله أشعار تنوعت في أغراضها ومشاعرها. وقد مثل المملكة في محافل ومؤتمرات أدبية وشعرية؛ فقد استقر ذكره كأديب وشاعر كبير في جملة من البحوث والدراسات، من ذلك: عبدالله بن إدريس، وعبدالسلام الساسي في موسوعته الأدبية، والدكتور بكري شيخ أمين في بحث موسوعي عن الأدب في المملكة مع طائفة من النقاد، وكذلك الدكتور يسري عبدالغني، وآخرها «شعراء من القصيم» للأستاذ عبدالرحمن بن عواض الحربي، ثم الكتاب الموسوعي «الشعر بالقصيم» للدكتور عبدالرحمن بن إبراهيم المطوع.
وأرى من المناسب ذكر بعض ما تختزنه الذاكرة من مواقف تعكس هيبة هذا الرجل، وحكمته في عيون طلابه، وإعجابهم به، ورضاهم عن إدارته.. وهذه مواقف ثلاثة:
الموقف الأول: الأستاذ محمد -رحمه الله- ليس كثير التجوال في المدرسة وبين الفصول الدراسية وممراتها كما هو المعتاد في هذا الشأن؛ فله هيبة منقطعة النظير، ولكن في بعض الأحيان يخرج من مكتبه، قد يكون لهذا الغرض أو غيره.
ومن المعلوم أن الطلاب بين الحصص يخرجون من فصولهم إلى الممرات القريبة من فصولهم، ويكون لهم حديث، وهرج، وارتفاع أصوات، كشأن الطلاب، ناهيكم بالمرحلة الثانوية.
ومما أذكر أنه إذا خرج من مكتبه ووقف على رأس الممر الذي يلي مكتبه فبمجرد وقوفه وملاحظة الطلاب له فأغلبهم إن لم يكن كلهم يدخلون إلى فصولهم هيبة منه، مع أنه بعيد عنهم جدًّا؛ فهو على رأس الممر، ومن ثم يسود الصمت أو ما يشبه الصمت هيبة لهذا الرجل. مع أني لا أعرف أنه عاقب أحدًا أو استدعى أحدًا لمكتبه في الإدارة، وقد يكون ذلك، ولكنه نادر جدًّا.
الموقف الثاني: مبنى المدرسة في أيامنا يتكون من ثلاثة أدوار (الأول والثاني والثالث)، وفي كل دور صف دراسي. فالأولى الثانوية في الدور الأول، وفي الدور الثاني الثانية الثانوية، وفي الثالث الثالثة الثانوية. وكل دور فيه فصول دراسية متعددة. أذكر أني كنت في الفصل السادس من السنة الأولى الثانوية.
أما الدور الأرضي فليس فيه مبانٍ، بل هو فناء واسع مع الأعمدة التي تحمل مبنى المدرسة.
وبعد ابتداء الحصة الأولى بخمس دقائق أو عشر تقريبًا يُقفل الباب المؤدي إلى الأدوار التي فيها الصفوف؛ فيبقى الذين حضروا متأخرين بانتظار فتح الباب عند انتهاء الحصة الأولى، وعددهم ليس قليلاً؛ لأن مجموع طلاب المدرسة كبير جدًّا، والقليل من الكثير كثير.
وغالبًا يجلس هؤلاء المتأخرون في الحضور قرب الباب بانتظار فتحه، ثم إن الأستاذ محمد -رحمه الله- بين الفينة والفينة ينزل إلى الفناء ليتفقد المتخلفين. ونظرًا لما يتمتع به من هيبة، وكذلك من حافظة عجيبة، وذاكرة مذهلة، فإنه حالما يفتح الباب، ويطل الأستاذ على الفناء، يتفرق الطلاب شذر مذر هاربين ومستخفين خلف أعمدة المبنى حتى لا تقع عين المدير على أحد منهم؛ لأنه لو رآه فإنه لن ينساه، وقد لا يقول له شيئًا في هذه اللحظة، ولكن يحتفظ بذلك إلى وقته المناسب إذا جاء له وقت مناسب.
الموقف الثالث: مدرسة الملك عبد العزيز الثانوية في مكة المكرمة من كبرى المدارس على مستوى المملكة كمًّا وكيفًا؛ فهي تنافس على الصدارة في طلابها الخريجين على مستوى المملكة كالمدارس الكبرى في الرياض، والمدينة المنورة، وجدة، والدمام وغيرها.
وكان من المعتاد في ذلك الوقت أنه إذا قرب موعد الامتحانات بأسبوعين أو نحوهما تتساهل إدارة المدرسة في غياب الطلاب تقديرًا لظرفهم، وحرصهم على المذاكرة، والاستعداد للامتحان. والغالب أن المدرسين يكونون قد أنهوا المناهج وهم في دور المراجعة.
وأذكر في السنة التي كنتُ فيها في السنة الثالثة «التوجيهي» كان هناك مجموعة من الطلبة المتميزين المعروفين بجديتهم، وتفوُّقهم العلمي، والدراسي، الذين تؤمِّل المدرسة بأن يكونوا في الصدارة على مستوى المملكة.
ويبدو أنهم اتفقوا على أن يغيبوا قبل المدة التقريبية التي كان من المألوف التغاضي عنها من قِبل إدارة المدرسة.
وبالفعل فقد غابوا جميعًا، لعله قبل ثلاثة أسابيع أو قريبًا من ذلك؛ فما كان من المدير الأستاذ محمد الشبل إلا أن وضع قائمة أسمائهم في لوحة الإعلانات الكبرى على أنهم مفصولون، على الرغم من أنهم كسبٌ للمدرسة، وبمثلهم تنافس المدرسة على المراكز الأولى. وقد اهتزت المدرسة كلها لهذا الإجراء؛ فما كان من أولياء أمور هؤلاء الطلبة إلا أن هرعوا مسرعين مذهولين؛ فأبناؤهم معروفون بانضباطهم السلوكي، إضافة إلى تفوقهم العلمي. ويحضرني الآن بعض أسمائهم، ناهيك بأن بعضهم من أُسر معروفة بمكانتها وحضورها الاجتماعي.
وأشهد أن الأستاذ/ محمد -رحمه الله- يقدِّر كل طالب وولي أمره، كما أنه يقدِّر الأسر المعروفة، ويحفظ لهم مكانتهم، ويُنزلهم منازلهم، وهم يعرفون ذلك منه؛ فتفاوض أولياء الأمور مع المدير؛ فتوصلوا إلى أن يكتبوا تعهدًا بالالتزام بأنظمة المدرسة، والانضباط في الحضور، وألا يتكرر مثل هذا.
فكان هذا درسًا عمليًّا جادًّا صارمًا، وأحسب أنه في حينه عمَّ منطقة مكة المكرمة إن لم يكن على مستوى التعليم في المملكة.
وبعد: فإنه وحين تسجيل هذه الكلمات الحزينة في حق أستاذنا أستاذ الجيل الأستاذ الجليل محمد بن سليمان الشبل -رحمه الله- فإني أذكر بكل تقدير واعتزاز هذه المدرسة الشامخة (مدرسة الملك عبدالعزيز الثانوية في مكة المكرمة)، مدرسة (تحضير الابتعاث) بتاريخها العريق، ورجالاتها الذين تعاقبوا عليها إدارة، وتعليمًا، وطلابًا.. وكلهم قد أسهموا في بناء الوطن من خلال مواقعهم المتعددة والمميزة والمتمايزة.
أذكر المدرسة بإداراتها، ووكلائها، الذين كان منهم في عهدنا الأستاذ: عبدالواحد طاشكندي -رحمه الله-، الأستاذ: محمد صالح بندقجي -حفظه الله- وهو أستاذنا في اللغة العربية، وهو أستاذ فاضل، ووقور، له هيبته، حبَّب إلينا اللغة العربية بشخصيته الودودة، وطريقته الفريدة، وعلمه الضليع. وأذكر أنه كان يحمل في يديه منديلاً أثناء الدرس؛ لأن يديه تعرقان؛ فيجفِّف عرقهما بهذا المنديل. فجزاه الله عنا خير الجزاء.
وجزى كل مشايخنا وأساتذتنا على ما قدموا لنا من علم ونصح وتوجيه ومحبة وتربية.
وحسبي أن أختم بهذا البيت من شعر أستاذنا محمد الشبل، فهو يقول في هذه الحال التي نحن فيها:
يوم الوداع وهل أبقيت في خلدي
إلا الأسى في حنايا القلب يستعر
ما أقسى لحظات الوداع وأمرّها على النفس، ولكن لا نقول إلا ما يُرضي ربنا. وإنا على فراق أستاذنا لمحزونون. والحمد لله؛ كتب الفناء على أهل هذه الدار. رحم الله أستاذنا، ووالدينا، وشيوخنا، وأموات المسلمين، وأصلح عقبه وذريته. والحمد لله رب العالمين.