د. محمد بن إبراهيم الملحم
أشرت في مقالتي السابقة إلى قصيدة الشاعر إبراهيم طوقان المشهورة والتي عارض بها قصيدة شوقي الأشهر (قم للمعلم)، وأنه لام شوقي في مدحه لمهنة التعليم ورماها أنها سبب للانتحار، وهذه النظرة التشاؤمية لمهنة التدريس لم أستغربها من طوقان كونه لا ينتمي إليها سيكولوجيا فهو إنما جربها سنتين ثم غادرها إلى الجامعة، بل لم يطل به المقام هناك لينتقل بعدها إلى الإذاعة، ولعمري كأني أرى هذا السيناريو (وإن لم يتحقق كما حدث لطوقان) هو صورة الشخصية الداخلية لكل معلم يردد عبارات التشاؤم والتذمر من مهنة التدريس، فهو ليس من أهلها في الأساس ولم يخلق لها (كما يقال)، ولكن تعثر مسيرته العلمية أو المهنية لأي سبب اضطره إلى التوجه لها، والمؤلم أن هذه حال فئة شريحة ضخمة جدا حتى إنك لو قلت إن المعلمين «الحقيقيين» هم فئة قليلة بين هؤلاء الآلاف المؤلفة ممن يسمون «معلمون» لما كنت مجانباً الصواب، ولهذا تكرر عند وزير التعليم الأسبق التربوي المبدع العظيم الأستاذ الدكتور محمد الأحمد الرشيد -رحمه الله- قوله «مشكلتنا أن التعليم مهنة من لا مهنة له».
ومن شدة بريق هذا التذمر فقد تقمصه حتى المخلصون من المعلمين ورددوه، ولكنهم لا يشيرون في تذمرهم من صميم المهنة كما قال طوقان مثلا :
يَكفي المعلمُ غُمَّةً وكآبةً،
مَرْأى الدَّفاتِرَ بُكرةً وأصيلا
«مئة على مئة» إذا هي صُحِحَتْ،
وَجَدَ العمى نَحوَ العُيونِ سَبيلا
وإنما هم يشكون ما يصيبهم من تغيرات متسارعة وأحيانا متخبطة في الأنظمة والمناهج والممارسات، مما يعيق إبداعهم بل حتى إنهم يشكون قلة حيلتهم في إحداث أثر إيجابي كبير على نحو ما كانوا يحققونه قبلا، ولغة هؤلاء واضحة، وعباراتهم رصينة موزونة، وهم يدركون أين يسيرون في تذمرهم، وبالمناسبة فإن الفريق الآخر غير المنتمي للمهنة يتكئ على هذه المعاني أحيانا ويلبس جبة المعلم المبدع في عطائه (وربما كان لديه شيء من هذه القيمة أحيانا)، ويخلط بين لغة التشاؤم من الأنظمة ولغة التشاؤم من المهنة ذاتها، ولا غرابة إذا حدث هذا فهذه الفئة هي السواد الأعظم فنتوقع منها كل أنواع الخلط. ولكن الخلاصة أن لغة التشاؤم من المهنة ذاتها بممارساتها ومتطلباتها كمهنة يجب أن تمحى من قواميسنا وأدبياتنا، فنحن نتطلع إلى مستقبل يقوم على بناء الإنسان والاستثمار في رأس المال البشري، وهذا عماده التعليم، ورأس هرم التعليم مهنة التدريس.
وإذا أردنا أن نمضي أكثر في تحليل مصادر التشاؤم لدى المعلمين فلا بد لنا أن نستعين بالدراسات العلمية في هذا الشأن وهي كثيرة جدا وأستشهد بعينة منها، فمثلاً دراسة حول الجوانب النفسية أجريت في جامعة الأميرة نورة ونشرت في مجلة الإرشاد النفسي لجامعة عين شمس 2017، حيث توصلت إلى أن السمات الشخصية التالية : الانبساطية والصفاوة ويقظة الضمير تزيد من دافعية المعلم نحو مهنته والتي ترتبط بالإنجاز في أدائه، وفي دراسة أخرى نشر ملخصها حسن علي الحمادي في جريدة البيان الإماراتية بتاريخ 16 مارس 2000 حول التشاؤم والتفاؤل لدى المعلمين توصلت إلى أن المتفائلين من المعلمين كبارا أو صغارا أكثر من المتشائمين دراية بالعمل بالتدريس، وجودته، وإنتاجه، والانضباط في العمل، والنضج في الرأي، والقدرة على التوجيه والإشراف، وهم بوجه عام أفضل أداء، والمتشائمون أقل حماساً في التدريس ودراية وجودة وإنتاجاً ومبادرة وتعاوناً وانضباطاً وحصافة في الرأي وقدرة على التخطيط والتوجيه، وبشكل عام أقل أداء.
ومن تفسيرات الدراسة أن المتفائلين أكثر قدرة على التكيف مع مواقف الحياة العصبية، والتي تحتاج إلى ضبط النفس مما يرفع قدرتهم على اتخاذ قرارات صحيحة لحل المشكلات التي تواجههم.
لعل هذه الإشارات تلفت الانتباه إلى أسباب التذمر وأزمة التدريس المعاصرة في وطننا العربي خاصة في ظل تراجع هيبة المدرس ووقوعه تحت وطأة التجارب التربوية ومحاولات تقليد غير موفقة لنظم تعليمية متفوقة، وأخيراً هي توجه العناية إلى أهمية ألا يدخل المهنة إلا أهلها ومستحقوها، فالتدريس فن وملكة يؤتاها بعض الناس حتى إنه لا يحتاج إلى كثير من معطيات علم النفس التربوي (ويظن كثيرون أنهم وهبوا ذلك فعلاً!) ولا يتآلف معها إلا من يحبها ويتفنن في تعاطيها أما من يستهدفها للمعيشة والراتب فلن يزيد على أن يلحق بها البؤس والشقاء.
سؤال ملح : هل من هؤلاء من يتولى إدارة العملية التعليمية أحياناً وربما المشاركة في تقرير مصيرها! ربما كثير منكم أفضل مني في الإجابة.