د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** كتب صاحبُكم مرةً أن قدر الأجيال أن يقرؤوا «التأريخ» وقدر جيله أن يشهد «التاريخ»، والفرق بين مفردة المهموز «التأريخ» والمُسهل «التاريخ» أن الأُولى تناقلٌ كتابي وشفاهي والثانية معاينةٌ ومشاركة؛ فكذا اعتمد «قسطنطين زريق 1909- 2000م» هذين المصطلحين، وكذا تابعه من ارتضى تعريفه، والمؤدى قراءة الفارق بين الشجيِّ والخليِّ وبين الثكلى والمستأجرة.
** ليس مهمًا أن تستوطنَ قلبًا فالأهمُّ أن يستوطنَك، ولا يعني كثيرًا أن تؤلف كتابًا مثل ما يعنيه أن يكتبَك، ولا أن تسكنَ وطنًاً بل يسكنك، وحين تُزمع عملًا فسيختلف شكله ولونه عندما يؤرقك في فلقك وغسقك ليراه غيرُك مسارًا كما تراه أنت منارًا، وإلا فسيكون القلب آلة والكتابُ أجيرًا والمدينة أبنيةً والمشروع رقمًا والناسُ أسماءً دون سماتٍ والعالَمُ انعكاساتِ مرايا، وكذا تبدو لنا علاقاتٌ ومعلقات وأناشيد ومسرحيات فتنفصل النفْسُ عن النفَس، ويغيم الحقُّ عن الخلق.
** صار التراثُ للبكائيات، والتأريخ للحكويين والحكويات، والوسائطُ الرقميةُ لتزجية الأوقات، ويقود التأملُ المتأملَ للتفكر والتدبر في حسابات ما فات وما سيأتي، وقد تأخذه إلى مقارناتٍ واستنتاجاتٍ ينعى فيها الواقع مستندًا إلى الوقائع، وباستدعاءاته وتداعياته يحصل تلوينُ الأزمنة وتكوين الهُويات ونشر الأهواء بما يخلط الأوراق ويجعل الحكم بالصحة والخطأ غير ذي بال؛ فلا موقع للماضوية العاطفية، ولا إيقاع للمشاعر الوجدانية في المحاكمات العقلية والعلمية، كما لا وزن للبكاء والتباكي والذكاء والتذاكي، وحين تُطل استفهامات القيم التأثيرية القادرة على تحجيم الخلل تبرز الإجابة بأنها «التربة والتربية»؛ فهما القادرتان على تحقيق الاتزان وتعزيز التوازن.
** عبرت أجيالُ الأمم المحيطاتِ بأمواجها، والأودية بفجاجها، والآكام بأثباجها، والقلاع برتاجها، فمهدت الدروبَ لمن تلاها، وجاء جيلنا من أمتنا بوصفه آخر أجيال الشظف وأول أجيال الترف فعاش قبل الكهرباء في بيوت الطين، وارتقب بدايات البث المرئي وراقبه، ولم يكن في كل منزل سيارة كما لم يَعرف السائقين والعاملات، ولم يرَ غير الوطن يخدمه المواطن إلا نزرًا، وقدَّر الفارق بينه وبين عصور من سبقه ضئيلًا فتخيل حياة القرون الأولى واستوعبها واعتدَّ بعصره ففهم بعضه وتفهم بعضَه.
** أكثرنا اليوم غرقى في السيل التقني والعمالة الوافدة والسفر والمركوب والمأكول والمشروب والترف والسرف، والمسافة شاسعة بين «راءٍ وراوية» لتضج الساحات بمزايدات قيمة كل جيل ودوره وتأثيره، ولا بأس؛ فهو أمر مألوفٌ في الأدبيات العربية إذ سجال الشيوخ والشباب ممتد وسيمتد من غير أن يبزَّ جيلٌ جيلًا أو تلغيَ حداثةٌ قديمًا أو يحجبَ قديم جديدًا، وسيشيخ الشباب فيقابلهم خلفُهم بمثل ما لاقَوا به سلفَهم، وتمضي الأعوام فندَّكر أننا كنا هنا ويذكر غيرُنا أننا مررنا، ونُبكَى يومًا ونُرثى يومين، ونُرمس ونُنسى، وستبقى صفحاتٌ وضيئة لثللٍ سكنها الحق وكتبتها الحقيقة وصدقت فصُدِّقت وكسبتْ رضا الله ودعاء عباد الله؛ فما أسعدهم.
** الحكم للتأريخ.