د.فوزية أبو خالد
الحقيقة أنني طالما ترددت أن أطرح في مقالات الرأي التي أكتبها سواء مقالاتي الأسبوعية بـ«الجزيرة» أو أي مواقع يومية أخرى، أي من قضايا علم الاجتماع ببُعديها النظري والمنهجي إلا فيما ندر، وعندما يكون لذلك ضرورة تجعل تناولها جزءًا من سياق موضوع ما، أو إطارًا لازمًا له دون أن يثقل ذلك على قارئ غير متخصص بمفاهيمها ومصطلحاتها درج على أن موقعها الطبيعي هو المجلات العلمية والمعرفية المتخصصة.
غير أن شدة الريح تفتح الكثير من النوافذ والأبواب المغلقة أو المواربة عادة، بل إنها قد تخلق موجات جديدة من الهواء وتزيد عدد الرئتين إلى رئة ثالثة - بتعبير أ.عبدالرحمن السدحان - وأكثر، مما يستدعي توسيع الدوائر النخبوية للمعرفة إن لم يقد لتنزيل تلك المعارف من عليائها الأكاديمي وتركها تمشي بين الناس لتصبح المعرفة والحرية كالخبز حلالاً وحقًا للجميع، وليس فقط لمن يملك مفاتيح مخازن الطحين أو يعرف كلمة السر لفتح مغارة علي بابا.
وهذا ما تفعله اليوم فضاءات العالم الإلكتروني، حيث تسحب البساط ببساطة سحرية من أصحاب مقاليد الأمور القدامى وتعممها على الجميع (دون أن يفلت كل ذلك بطبيعة الحال كليًا من قبضة الرأسمالية والهيمنة بأشكالها «الحرباوية» المتأقلمة إلى هذه اللحظة مع أعتى الثورات التقنية والمجتمعية والمعرفية), والجملة الأخيرة مجرد كلمة استدراكية وإن لن يكون مكان قراءتها في هذا السياق.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، وجدت على تويتر قبل أسابيع عدة مجموعة من التغريدات التفاعلية حول موضوع هو غاية في الجدية وغاية في العمق، وفوق هذا وذاك فإنه لا يمكن طرحه دون خلفية نظرية ودون تصور منهجي وربما دون الحد الأدنى من الدربة الميدانية. وقد كان الموضوع الذي تناولته تلك التغريدات يتعلق على وجه التحديد بالعلاقة بين تنوع المرجعية القانونية في الدراسات المتخصصة للقانون والأنظمة العدلية في مجالاته المتعددة من القانون الدولي وقوانين العمل والعمال والقانون التجاري إلى قوانين ما يسمى بالأحوال الشخصية أو «فقه الأسرة» وما بينهما وسواهما من مسائل قضائية. كما كان يتعلق بسؤال محدد عن أهمية الفقه للقانون سواء في دراسة القانون أو في وظائف التطبيقات العملية على أرض الواقع خصوصًا بالمجتمع السعودي الذي لا شك أنه يواجه نوعًا من الفجوة الجدلية بين المعرفة الفقهية وبين العلم القانوني. وقد كان للحقيقة كما ألمحت تبادل تغريديًا ثريًا توقف وإن لم ينته عند خلاصة مفادها أن سعة الفقه الإسلامي تستدعي العمل العلمي المتفاني لاستنباط مدونة من الأنظمة والأحكام بحسب المكان والزمن، أي بحسب واقع وحاجة المجتمع المعاصر دون ترك الأمر مفتوحًا، بل ضبط مقنن للأحكام بحسب التقديرات الشخصية التي قد لا تكون مبنية على منهج مقارن دقيق بين المدارس الفقهية، ولا على التمحيص العلمي. فتلك حاجة عدلية ماسة لجهاز القضاء وجهاز الدفاع معًا، وللمجتمع بطبيعة الحال لتكون أحد معايير نزاهة واستقلال القضاء التي هي المنشود. وهي بقدر لا يقل أهمية تشكل حاجة ماسة للجامعات والطلاب المعنين بالدراسات القانونية والفقهية المعاصرة. وقد كان بعض من أصحاب تلك التغريدات -على سبيل العرفان بالجهد- كل من - مع حفظ الألقاب - بارعة اليحي, ريما الفالح ومحمود شمس الدين الخزاعي ووضحى الملاحي و»بيت الخبرة للاستشارات القضائية».
وقد أدلوت بدلوي في الموضوع ولكن من زاوية تجربة معرفية شخصية، فقلت: «إنني شاركتُ بجامعة نيويورك حضورًا وقراءة ومساهمة نقاشية في «ندوة علمية متسلسلة» بمعدل ساعتين على مدى فصل دراسي كامل، تُعنى بتقديم قوانين الفقه الإسلامي للأحوال الشخصية فيما يخص النساء عمومًا والأسرة خصوصًا لطلاب القانون ولمتخصصين عاملين في مجال الدارسات القانونية وهو «سيمنار» أساسي في مقرر القانون للدراسات العليا لاطلاع دارسي القانون والممارسين له والمهتمين بمجاله المعرفي قانونيًا ومعرفيًا على وجود أنواع متعددة من القوانين التي تحكم حياة المجتمعات والتجمعات البشرية على تنوعها واختلافها وعلى أشكال تطبيقاتها وإشكالياتها، سواء كانت قوانين بمرجعية وضعية أو مرجعية شرعية كما في حالة «قوانين الفقه» في المجتمعات الإسلامية». وهذه التغريدة كتغريدة الزملاء ممن ذكرت بعضهم تصب في سؤال التواشج المعرفي أو التداخل المعرفي العلمي فيما يسمى باللغة الإنجليزي (interdisciplinary )
بين العلوم وفي الحالة المطروحة سعوديًا ربما يعني الموضوع ضرورة إعادة النظر في فتح وتقوية علاقة التواشج بين الفقه والقانون وقد يدخل معهما على الخط علم الإنثربولوجيا وعلم اجتماع المعرفة وعلى اجتماع الحقوق والتاريخ خاصة في تخصص مسيس بحياة الأفراد والمؤسسات والمجتمع كالدراسات القانونية.
=2=
يبقى أن الموضوع في سؤال الأحكام الشرعية والفقه والدراسات القانونية وتواشجه مع مجالات معرفية علمية أخرى وخاصة في دائرة انشغالي وشغفي العلمي بهذا الموضوع من موقع النساء وأحوال الأسرة، يحتاج إلى كتابة لاحقة عن الموضوع. سيكون منها مقال لاحق في سؤال مباشر أوجهه للجامعات ولمن بيده القرارات فيها، ولكل كادر أكاديمي من كوادرنا، وهو سؤال لماذا تغيب عن جامعاتنا أقسام ومراكز متخصصة مستقلة في دراسات المرأة والأسرة، بحيث تكون معملاً للتواشج المعرفي وللاستقلال نحو إنتاج معرفي في هذا المجال الحيوي.
وأيضًا أوجه السؤال مباشرة لمعالي وزير الثقافة، لماذا لا يكون أحد أهداف وزارة الثقافة فتح المجال لتوطين الثقافة القانونية وغيرها من الثقافات التي تعاني من غربة المفهوم والمصلح والفكر والعمل، مثل الدراسات النسوية، ومن ذلك تشجيع مبادرات من يود مثلي السعي لفتح مراكز دراسات مستقلة بهذا الشأن، أو بشؤون ثقافية وقضايا فكرية أخرى مثل طلبي وبعض الزملاء المتعثر لعامين للحصول على تصريح بإقامة «ثنك تانك» منذ عهد وزارة الثقافة والإعلام.
والسؤال الذي يخطر على البال في هذا السياق
لماذا كان هناك فاطمة مرنيسي وفريدة بنان، وعزيزة هبري وزيبا حسيني وزينا أنور وعزة كرم وخولا لامبر وليلى أحمد وهدى الصده من المؤسسات عربيًا، وفي مجتمعات إسلامية كماليزيا وعالميًا لقراءة النسوية في ضوء الأحكام الشرعية ومدارس الفقه وعلم القانون والعلوم الاجتماعية، من جامعات عربية وإسلامية لمعهد جوته لجامعات أكسفورد وكمبردج وهارفرد ونيويورك، وفي العديد من بيوتات الفكر المستقلة كمؤسسة كرامة ومساواة وسواهما في مجال الدراسات النسوية، بينما يخفت بصيص الأسماء القليلة التي يمكن أن تسهم في هذا المجال بجدارة في المجتمع العربي السعودي.
ملاحظة غير هامشية
لقد بعثت لدكتورة مي العيسى تهنئة من القلب بوقفة د. إيناس العيسى وهي تتحدث بحماس عن مشاريع جامعة الأميرة نورة لمستقبل أكاديمي يخرج على المستوى الجامعي المدرسي الذي عاشه المجتمع السعودي عقودًا عدة نحو مستوى يرجى أن يكون أكثر علمية وأوسع أفقًا معرفيًا وأعلى سقفًا وأكثر تسامحًا معرفيًا واجتماعيًا، ولم أكن أنوي أن أشير لتلك الملاحظة الخاصة علنا على الإطلاق ولكن ربما لأن بعض أسئلة المقال تريد أن تتحدى الظلام بشمعة الأمل، وفتح باب الحوار حول واقع الحال ما استطعنا لذلك سبيلاً.