د.عبدالله بن موسى الطاير
بدت مظاهرات الطلاب في الشوارع البريطانية عام 2010م وما صاحبها من عنف خروجاً على النهج العقلاني للعام الأول، وبعدها بتسع سنوات كانت احتجاجات السترات الصفراء التي اجتاحت فرنسا ورافقها الكثير من التخريب، وحالياً يشهد إقليم كتالونيا الإسباني مظاهرات يتخللها بعض العنف. بيد أن هذه الحوادث المعزولة لا تقارن بالأوضاع التي تنهش خارطة العالم المتخلّف أو العالم الثالث وبخاصة العربي/ الإسلامية منه.
يتكون العالم الأول من أولئك الذين يتوافقون مع معايير العقل ويتمتعون بالقدرة على توظيف السياسة، ويتمسكون بفضائل فكرية وقدرة على تفعيل العقل. يقابل ذلك أمم همجية تهمل عقولها وتتبع ميولها وتبني سياساتها حول اختلافاتها. أي أمم عقلانية، في مقابل أمم عاطفية.
المتخلف يؤمن بالمناجزة المسلحة مقابل التفاوض والتنازل المتبادل، يريد المجتمع المتقدم الوصول إلى نقطة اتفاق يبني حولها تفاهما، بينما يبحث المجتمع الرجعي عن نقطة خلاف ليأخذ بموجبها كل شيء أو لا شيء، فلنا الصدر دون العالمين أو القبر. العقلانيون يتعاملون بنسبية الحقيقية، فهم على استعداد أن يتفاوضوا حول أي شي، بينما المتخلف يرى أن كل مختلف حوله هو أمر سيادي دونه خرط القتاد، وعلى استعداد أن يحرق الأرض ويهلك الحرث والنسل في سبيل الدفاع عن باطله.
العرب تمتعوا منذ القدم بصلابة الرأس وهياج العاطفة، ولذلك عندما دخل أعرابي على واعظ في المسجد يفسر قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ}، امتدح إبليسَ بدون تردد قائلاً (يعجبني صليب الراس). تحاربت أبناء العمومة عبس وذبيان بسبب داحس والغبراء 40 عاماً، ولا يمكن لأحد أن يقنعني بأن ذلك كان لأسباب منطقية. وأول موقعة حكم فيها العقل سلوك العرب كانت بعد البعثة النبوية في صلح الحديبية بين الرسول صلى الله عليه وسلم وقريش، وبموجبه تم ضمان دخول أي شخص في عهد المعسكرين، وأبرمت هدنة مدتها 10 سنوات، وعاد المسلمون من حيث أتوا على أن يزوروا مكة في العام اللاحق لثلاثة أيام وسيوفهم في أغمادها في غياب قريش. كما فرض الصلح رد المسلمين كل شخص يأتي إليهم من قريش مسلماً بغير إذنها، أما قريش فتؤوي إليها من يأتيها من المسلمين. ما كان العرب ليبرموا صلحاً بذلك الإجحاف الظاهر لولا العقلانية التي تمتع بها القائد، وفرضها على أصحابه تهذيباً لسلوكهم.
طغيان العاطفة على قضايا العالم الإسلامي فتحت سوقاً رائجة للقتل الذي حرَّمه الله على المسلمين إلا بالحق، وأي حق للقاعدة، وداعش وطالبان، وبوكو حرام في قتل المسلمين الآمنين في دور عبادتهم، ومدارسهم ومشافيهم؟ وما هو المنطق الذي يطيل أمد الحروب في دول العالم الإسلامي؟ إنه التخلّف لا غيره. ولأن الإسلام عقيدة وتنوير، فإنه من الظلم لهذا الدين العظيم أن يكون بأي حال من الأحوال مبرراً للتخلّف. المنطق والعقلانية تراجعا في قراراتنا وممارساتنا لصالح العاطفة والكراهية والشقاق. إننا نوجه حروبنا على أساس من الدفع بخلافاتنا إلى أقصى مدى يمكن الوصول إليه. وفي نهاية المطاف نخسر كل شيء.
سيجادل من يهوى المؤامرة بأن هذه حبائل العالم المتقدِّم التي حاكها لنا لتعميق الخلافات، لنكون سوقاً لسلاحه المتطور يقتل به بعضنا بعضا. فليكن ذلك؛ فنحن سوق مفتوحة للفوضى، ومتعطِّشة للدماء، ولذلك فإن تزويدنا بأسلحة تلبي لنا هذه الحاجة المتزايدة إنما يساعدنا في المناجزة، وسفك المزيد من الدماء، ولذلك فمن مشاعر الوفاء أن نقدِّم لهم أسمى آيات الشكر على هذه المساعدة التي تجعلنا نقتل أكبر عدد منَّا بأسلحتهم المتطورة.
لو كان لدينا بعض المنطق، ولو كان العقل يحكم قراراتنا لكانت فلسطين اليوم في حال غير الحال التي هي عليه، وكذلك كشمير، وأفغانستان، وسوريا، والعراق وليبيا، واليمن، وبقية دول العالم الإسلامي التي تئن من جراحها ومآتمها التي لا تنتهي.